ثقافية

“القاهرة” بعيون داود أوغلو في ضوء كتاب “حضارات ومدن”

عند حديث داود أوغلو عن القاهرة في كتابه “حضارات ومدن” عنون بأنها مدينة تفاعل محوري بين الحضارات. وقد تحدث داود أوغلو عن القاهرة بصفته الرسمية وغير الرسمية، وفي حديثه عن القاهرة بصفته غير الرسمية تحدث بروح سائح متجول له سابق معرفة بالحضارات والمدنيات القديمة، فأسهب في الحديث عن عبق التاريخ في القاهرة وتأثيرها عليه بصفتها مركزا حضاريا يضم آثارا من كل الحضارات كما لم يوجد في مدينة أخرى. أما بصفته الرسمية فتحدث عن القاهرة السلطوية وأجاب عن سؤال القوميين العرب الذين يعتبرون الفتح العثماني لمصر احتلالا، وكذلك عن تأثير ثورة يناير وما تبعها من أحداث.

رؤية السائح

كانت زيارة داود أوغلو الأولى للقاهرة عام 1988 في إطار جمعه لمصادر رسالة الدكتوراه، وقد ظل حينها ما يزيد على ثلاثة أشهر.

فالقاهرة بالنسبة لداود أوغلو إحدى المدن التي عاش فيها أكثف تفاعل بين الحضارات في إطار ثقافة مدينة. والشهور الثلاثة التي قضاها كانت درسا في التفاعل بين الحضارت. وكأنه كان في مختبر للتاريخ إن لم يقيّم كل لحظة فيه سيفقد هذا المختبر سحره.

البيت الذي سكن فيه  داود أوغلو كان قريبا جدا من الأهرامات. وكثيرا ما كان يذهب وفي يده دفتر الملاحظات ويجلس فوق الهرم الأصغر الأقل اعتبارا بالنسبة للزوار من حين لآخر، وينظر إلى  هيبة الأهرام الكبيرة ويحاول تمثيل عظمة مصر القديمة، وعندما يُرهقه ذهنه يضع دفتره بين أحجار الهرم ويجري بالخيل التي أجَّرها نحو الصحراء ويعود من مسافة محددة يشاهد منها الأهرام من عمق الصحراء ويعمل على تخيل الرابط بين طبوغرافية الصحراء وثقافة المدينة. وفي إحدى المرات أثناء رحلة  قام بها مع صديقين بالخيل في أحد أيام رمضان من أهرام الجيزة نحو هرم سقارة بمرافقة عاصفة رملية بدى له الأمر كمغامرة في التاريخ عابرة للزمن.

القاهرة الإسلامية

أما مصر القديمة والفسطاط وجامع عمرو بن العاص فهي الأماكن التي استطاع من خلالها مشاهدة القاهرة القديمة عن قرب.

فقد تجول في الأحياء النصرانية المحيطة بتلك الأماكن وحاول إدراك التحول بين قاهرة مصر القديمة والنصرانية والمسلمة. ووجد إمكانية اختبار أفكاره بالتجربة حول موضوع تحول المسيحية واستكشاف آثار ثقافة القاهرة النصرانية قبل تعرّفها على الإسلام  في تلك الأحياء وكنائسها. وأكثر ما لفت انتباهه في هذا التفاعل الثقافي هو الاستمرارية في ثقافة القبور. فقد سرت هذه الاستمرارية في كل مناطق القاهرة من خلال أهرامات مصر القديمة، ومن خلال البيوت التي تحولت إلى مقابر في الأحياء النصرانية، ومن خلال مدن المقابر الكاملة الخاصة بالمسلمين فقط.

أما خان الخليلي وضواحي الحسين والجامع الأزهر فشبههم بمتحف في الهواء الطلق للقاهرة الإسلامية. والشوارع التي استمر فيها وجود الآثار الفاطمية والمملوكية والعثمانية جنبا إلى جنب فقد كونت وحدة تعكس استمراريتنا الحضارية.

هذه الأماكن التي تمثل باب اكتشاف العالم الشرقي بالنسبة للغربيين كانت بالنسبة له انعكاسات لهويته الحضارية التي نشأت في إسطنبول وقونيا في مكان جغرافي مختلف.

فخان الخليلي انعكاس للبازار المسقوف وجامع الحسين الذي أمامه انعكاس لجامع بيازيد. أما في المقاهي التي بين خان الخليلي وجامع الحسين فكان يشعر أنه في مكان الراحة أيام الثانوية ومكان التقاء المثقفين في تشنار ألتي (تحت شجر الصنار)

والحاصل أنه لم يشعر بغربة في القاهرة بخصوص هويته الحضارية، وحينها أدرك أن الهوية الحضارية هوية تتجاوز الجغرافيا والانتماء العرقي.

أما مصر الحديثة فشعر بها بمسيره في ميدان التحرير والميادين المجاورة له الممتلئة بهياكل أبطال مصر الحديثة.

وعلى الرغم من سريان جو سلطوي محدد البنية في كل مكان تلك الأعوام إلا أن القاهرة بكل أحوالها تستحق لقب مخ العرب.

“داود أوغلو”  في زيارة لمصر كوزير للخارجية

إن النقاش الذي كان قد خاضه مع مثقفي مصر في مؤتمر خلال زيارته الرسمية الأولى لها كوزير خارجية عام2009  قد حدد إطارا يوضح أن تاريخ الحضارة والمدن المحورية – ليست القاهرة ومصر فقط- يعكس آثار التضاد بين الشمولية (الانفتاح على الجميع) والإقصائية (الانغلاق على نفسها).

في تلك الزيارة نشر مقالا يتناول العلاقات التركية المصرية ملقيا الضوء على فتح مصر 1517.كما قام بحديث حول الخلفية السياسية والذهنية للعلاقات التركية العربية في جلسة مع المثقفين العرب في مركز الأهرام للأبحاث.وبعده قيل له في لقاء تلفزيوني أنه كان جريئا بنشر مقال اعتبر فيه أن ما حدث في 1517 فتحا لمصر مع أنه بالنسبة لنا احتلال. هذا السؤال وجد فيه إمكانية الإجابة عليه بما يعكس وجهة نظره في تاريخ الحضارات والمنهج التاريخي وما استحسنته كأساس في هذا الكتاب. وأجاب أنه:

لو كان فتح 1517 بالنسبة لمصر بداية احتلال والفترة العثمانية ليست جزءا من التاريخ المصري فهذا يعني أن مصر ليس لها تاريخ خاص بها، فالمماليك الذين كانوا قبل العثمانيين ليسوا من أصول مصرية ومن قبلهم الأيوبيون والفاطميون والطولونيون والعباسيون والبيزنطيون والرومانيون والإسكندر كلهم أتوا من خارج مصر وحكموها. ولو تقدمنا بهذا الشكل حتى عهد الفراعنة فإنهم أيضا قد قدموا من الجنوب.

فإذا كنتم (القوميون) تعتبرون العثمانيين والمماليك والأيوبيين والفاطميين والطولونيين والعباسيين جاءوا من خارج مصر وليسوا بقاهريين أو مصريين فلتهدموا الآثار التي خلف خان الخليلي والتي تعود إلى تلك العصور وتحمل وصف المتحف المكشوف الأكثر إبهارا في العالم، وبعدها ماذا سيتبقى من القاهرة؟ إن حضارة مصر وعظمة القاهرة المحورية في هذه الحضارة تجعلها لا تطرد القادمين إليها، بل تضفي عليهم لونها وتظهر قابليتها لإنشاء تركيبات حضارية كبيرة.

القاهرة بعد ثورة يناير

دائما ما ألفت القاهرة أن تكون ميدانا للكفاح بين السلطوية المُمَزِقة وروح الحضارة المُوحّدة. فقد أثارت ثورة يناير التي خرجت ضد السلطوية داود أوغلو من أعماقه. وقد تقابل مع ممثلين لكل قسم ممن خرج في الثورة في يونيو 2011 أثناء حملته الانتخابية في قونيا وحاول شرح روح الحضارة الحرة والموحدة من خلال تعرّفه بالقاهرة في درس استمر نحو الصباح. كما أن التفكير بأن هولاء الشباب قُتل قسم منهم في رابعة، وحبس قسم منهم، وقسم منهم كالمنفي خارج البلاد أمر يصيبه بحزن كبير.

القاهرة اليوم في مفترق طرق. إما أن تكون من المراكز المهمة بانفتاح جديد مع هويةٍ حضارية حرة  أو تبقى مدة في قبضة سلطة طاردة تمحوها الاختلافات باسم الحداثة.. مفترق الطرق هذا ليس خاصا بالقاهرة فقط.. بل سيوضح أيضا مستقبل مدن الشرق الأوسط الأخرى..

أتمنى أن تكتشف القاهرة التي أحببتها بالعشق روحها الممزوجة بالمدنية من جديد.

بقلم : عبدالرحمن عاطف السقا

زر الذهاب إلى الأعلى