Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أخــبـار مـحـلـيـة

التاريخ لا يعيد نفسه في معركة أردوغان ضد إمبراطورية الامتيازات

في أواخر القرن الـ19 انتشرت الجمعيات الماسونية والتنظيمات السرية التي أسسها مواطنون بالدولة العثمانية أغلبهم من الأقليات اليهودية والمسيحية، أو من المسلمين المتشبعين بالأفكار الغربية؛ نتيجة تعليمهم في جامعات أوروبية. ومع بداية القرن الـ20، برزت من بين تلك التنظيمات المتسترة بقناع الليبرالية “جمعية الاتحاد والترقي” التي وضعت نصب عينيها هدف إسقاط الخلافة والتخلص من السلطان عبد الحميد الثاني، خاصة بعد رفضه مطلب هرتزل بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وكان السلطان الذي ورث إمبراطورية مثقلة بضعف عسكري وترهل إداري وديون باهظة الفوائد، قد دشن عملية إصلاح اقتصادي شاملة عنوانها الاكتفاء الذاتي، وقوامها سياسة نقدية تعتمد على الليرة الذهبية والفضية، وتنشيط التجارة الداخلية، والتوسع في إنشاء المصارف الحديثة، ودعم قطاع الزراعة، في ظل ما تعرضت له الدولة من قيود الامتيازات الأجنبية، وغلّ يدها في التصنيع من قبل الدول الأوروبية.

 

 

 

بيان “توسياد” الذي تزامن مع هبوط الليرة التركية لمستويات قياسية أمام الدولار، وأعقب اجتماعا بين رئيس الجمعية الجديد سيمون كاسلوسكي (من أصول يهودية إيطالية) وزعيم المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري “كمال كليجدار أوغلو”، أحدث صخبا إعلاميا وأثار جدلا سياسيا لم يخفت حتى مع تعافي الليرة مؤخرا واستردادها قدرا كبيرا من قيمتها المفقودة أمام الدولار إثر إطلاق أردوغان آلية إيداع جديدة تحفظ للأتراك قيمة مدخراتهم مهما تغير سعر الصرف

وفي خضم ضغوط خارجية وصراعات داخلية، انتبهت مخابرات السلطان عبد الحميد لخطر “جمعية الاتحاد والترقي” المتنامي ولارتباطها بالحركة الصهيونية العالمية. لكن تلك اليقظة جاءت متأخرة، وبعد أن قويت شوكة الجمعية وتمددت سطوتها عبر تحالفات سياسية ومالية، علنية وسرية، في أرجاء الدولة العثمانية. وسرعان ما لجأت الحركة المموّلة غربيا إلى تحفيز الأهالي على النزول إلى الشوارع بدعوى المطالبة بإِعادة الدستور وإحياء البرلمان. ورغم استجابة السلطان عبد الحميد عام 1908 لمطالب المتظاهرين، لم تتوقف أنشطة التحريض وبيانات التأليب ضد الخليفة. وبعد اضطرابات 31 أبريل/نيسان 1909 الدموية في العاصمة إسطنبول (المعروفة تاريخيا بحادث 31 مارت)، تحرك عسكر الاتحاد والترقي من سلانيك و نجحوا في عزل السلطان عبد الحميد الثاني من كلّ سلطاته المدنية والدينية، ليبدأ فصل جديد كليا في التاريخ التركي.

 

 

 

هل يعيد التاريخ نفسه؟

“لا تحاولوا.. تركيا اليوم غير تركيا الأمس”؛ هكذا جاء رد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -بحسم ينضح غضبا- على مناورات تحالف يختمر بين المعارضة السياسية وجمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك “توسياد” التي سطع اسمها “بإلحاح” منذ إصدارها بيانا (في 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري) في صيغة خطاب موجه لحكومة أنقرة يدعو إلى الرشد وتحكيم العلم في إدارة الاقتصاد ويتهمها بالإضرار بمصالح البلاد والعباد نتيجة الإصرار على خفض سعر الفائدة.

 

بيان “توسياد” الذي تزامن مع هبوط الليرة التركية لمستويات قياسية أمام الدولار، وأعقب اجتماعا بين رئيس الجمعية الجديد سيمون كاسلوسكي (من أصول يهودية إيطالية) وزعيم المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري “كمال كليجدار أوغلو”، أحدث صخبا إعلاميا وأثار جدلا سياسيا لم يخفت حتى مع تعافي الليرة مؤخرا واستردادها قدرا كبيرا من قيمتها المفقودة أمام الدولار إثر إطلاق أردوغان آلية إيداع جديدة تحفظ للأتراك قيمة مدخراتهم مهما تغير سعر الصرف. ومرة أخرى يعلن الرئيس التركي رفضه القاطع طلب المعارضة تبكير موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر في يونيو/حزيران 2023. لكن ما سر هجومه العلني على أقدم وأضخم جمعية لرجال الأعمال في بلاده واتهامها بالاسم بأنها “تعمل على إسقاط الحكومة بشتى الطرق”؟! وما مغزى مقارنته بين “تركيا الماضي والحاضر” في مخاطبته المعارضة ؟

 

سأحاول الإجابة عبر نظرة سريعة على تاريخ وماهية “توسياد” التي ربما سيتردد اسمها بصخب أكبر في الإعلام خلال الفترة المقبلة (خاصة في ضوء ما تسرب عن حزمة إجراءات اقتصادية تستعد الحكومة التركية لإعلانها قريبا للسيطرة على الأسعار وكسر احتكار السوق من قبل بعض الشركات الكبرى).

 

بلغة الأرقام، تضم “توسياد” آلاف الشركات وتشكل اليوم ما يعادل 50% من الناتج المحلي التركي ويعمل تحت مظلتها 50% من العمالة المحلية، كما تستحوذ على نحو 85% من إجمالي التجارة الخارجية للبلاد. وقد تأسست جمعية رجال الأعمال والصناعة على يد مجموعة من أغنى أغنياء تركيا (ذوي توجهات يسارية علمانية، وأبرزها عائلات “كوتش” و”صبانجي”) في عام 1971 بعد شهر واحد من انقلاب 12 مارس/آذار العسكري الذي أطاح بسليمان ديميريل، ووسط أجواء سياسية ملتهبة واكبها صعود الإسلاميين والمحافظين. ولم يمض وقت طويل على ارتداء “برقع الحياد” حتى انكشف الوجه السياسي لجمعية “توسياد” في عهد حكومة “بولنت أجاويد” (العلماني الذي تحالف مع الإسلاميين)، فنشرت إعلانا في الصحف بعنوان “الحل الصحيح للاقتصاد” يطالبه بالاستقالة، وانتهى الأمر بسجنه في 1980 بعد انقلاب عسكري آخر.

 

ومرة جديدة اتخذت الجمعية النافذة موقفا مضادا لائتلاف حكومي (محافظ) شكّله حزبا “الرفاه” و”الطريق القويم” برئاسة نجم الدين أربكان، فدعمت الانقلاب العسكري ضده في 28 فبراير/شباط 1997 بعد “بيان” يطالب باستقالة الحكومة -وما أشبه الليلة بالبارحة- في صيغة مقال نشرته صحيفة يملكها أحد أثريائها بعنوان “سنحل الأمر بدون قوة السلاح”. وعلى مدى السنوات اللاحقة، تنامى النفوذ السياسي للوبي “توسياد” الذي رسخ سيطرته الاقتصادية على رأس المال التركي عبر الاحتكار شبه التام للنشاط التجاري ولعمليات التصدير والصناعة. ودأبت الجمعية على رفض منح عضويتها لرجال أعمال محسوبين على التيار الإسلامي المحافظ (وهو ما قد يفسر إقدام عدد من كبار رجال الأعمال المحافظين عام 1990 على إنشاء جمعية منافسة باسم “موصياد” وضعت شروطا غير مألوفة وصارمة لعضويتها كأن يكون المتقدم لعضويتها مسلما وذا سمعة حسنة، وهي الكتلة التي أصبحت لاحقا -وبالأخص في عهد حزب العدالة والتنمية- قوة اقتصادية ذات شأن. وهذا موضوع يحتاج شرحه مقالا منفصلا).

 

 

 

الواقع يقول إن “توسياد” لم تعد مجرد تكتل اقتصادي ضخم أو لوبي مؤثر في مقدرات السياسة التركية، بل تحولت على مدى نصف قرن إلى “إمبراطورية” تستحوذ على الإعلام والأزياء والفن والرياضة مثلما تسيطر على دور النشر والبنوك وسوق الأوراق المالية والجامعات الخاصة. ولسنوات، ظلت الجمعية تحافظ على “مسافة أمان” في علاقتها بالحكومة، بل إنها أسهمت في تمويل مشروعات كبرى يتبناها الرئيس التركي، ومنها مشروع السيارة الكهربائية. إلا أن بعض أقطابها لم يتورعوا عن خوض “مناوشات” غير مباشرة مع أردوغان، مثلما حدث حين دعمت عائلة كوتش احتجاجات ميدان تقسيم بإسطنبول (المعروفة بأحداث غيزي بارك) عام 2013 والتي كان يحدو قادتها الأمل في حشد زخم شعبي يسقط الحكومة. وبموازاة ذلك، عملت “توسياد” على نسج تحالفات سياسية للتأثير على نتائج أي انتخابات عامة أو محلية. بل ولم تتردد عن عرقلة مشروعات تنموية كبرى، حين تعارضت المصالح، مثل مشروع شبكة سكك الحديد الذي عارضته خوفا على أرباحها من تجارة السيارات والإطارات التي تكاد تحتكرها كليا.

 

 

 

تقول الرواية إن “تورغت أوزال” الرئيس الثامن لجمهورية تركيا (1989-1993) توفي مسموما بعد 20 يوما فقط من إلقائه خطابا قال فيه “كنت طالبا أقرأ يوما بصوت مرتفع سطور كتاب تصف السلطان عبد الحميد الثاني بسلطان الدماء، وكان جدي الذي عاش شبابه في فترة حكم السلطان يستمع، فصاح غاضبا “هذا كذب وافتراء.. يعلمونكم خطأ”، وسألته باستهجان “يا جدي هل تعرف أنت أكثر من الكتب؟!” وبعد سنوات عدة اغتربت فيها عن وطني بحثت في الموضوع القديم، وقرأت المزيد من الكتب الزاخرة بمعلومات متضاربة وغير أمينة.. أدركت أن جدي كان على حق حينذاك، واليوم أتساءل كيف يُكتب التاريخ؟! لقد وصفوا الخليفة بأنه “سلطان الدم”، بينما المتمعن في ظروف عصره سيدرك أنه كان سياسيا بارعا وإصلاحيا مجتهدا، أنشأ المدارس و عبّد الطرق وقام بالعديد من الإنجازات الملموسة، ثم جاء حزب الاتحاد والترقي رافعا شعار الوحدة والارتقاء. أليس كذلك؟”.

 

 


الجزيرة – هاني الكنيّسي


زر الذهاب إلى الأعلى