الدراما التاريخية.. كيف تسهم في بناء قوة الأمة؟
أصبحت الدراما التاريخية صناعة من أهم الأصول الإستراتيجية التي تستخدمها الدول في بناء مستقبلها، كيف ذلك؟
الدولة التي تستهدف تطوير قوتها ومكانتها الدولية يجب أن تبحث في تاريخها عن العوامل والأسباب التي يمكن أن توحد شعبها وتزيد قدراته على تحقيق الإنجازات الحضارية.
وهناك كثير من التجارب التاريخية الإنسانية التي توضح أن الشعب يمكن أن يتوحد حول حلم أو هدف يسعى إليه، وتعد تجربة الشعب الأميركي من أهم هذه التجارب؛ إذ تمكن من صياغة حلمه ببناء دولة الديمقراطية والرفاهية والتقدم، وتوحد من أجل تحقيق هذا الحلم. ولكن كيف يمكن استخدام الدراما التاريخية في صياغة حلم يمكن أن يوحد الشعب ويعبئ طاقاته، ويفجر قدراته على الإبداع والابتكار والعمل؟
التاريخ أحد أهم العوامل التي يمكن أن يستلهم منها صُنّاع الدراما الأحلام التي يمكن أن يتوحد حولها الشعب، وذلك بالبحث فيه عن العوامل التي تسهم في بناء القوة والمجد، لذلك فإن بناء الحلم يبدأ بالوعي بالتاريخ.
التحرر من العجز والشعور بالدونية
يقول أرطغرل في الحلقة 136 من المسلسل التركي: “لا يمكن إلا لمن يملكون أحلاما كبيرة أن يتقدموا في طريق النصر”.
مسلسل أرطغرل من أهم المسلسلات التركية التي قد أسهمت في الفترة الأخيرة في صياغة الحلم التركي الذي انطلق من تاريخ ما قبل بناء الدولة العثمانية ليحفز الشعب التركي ويطلق طاقاته لبناء النهضة والتقدم في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وفي العلوم والفنون.
يوضح لنا هذا النموذج ما يمكن أن تحققه الدراما التاريخية، وكيف يمكن أن تسهم في بناء قوة الأمة ومستقبلها.
إن الحلم يمكن أن يكون أساس بناء القوة، لكن الحلم لا يمكن أن يقوم إلا على أساس الثقة في تحقيقه؛ فهناك كثير من الذين يحلمون لكنهم يشعرون بالدونية والعجز.
ولقد عملت القوى الاستعمارية منذ بداية القرن 19 على غرس الشعور بالدونية في نفوس شعوب أفريقيا وآسيا، فضاعت أحلامهم هباء عندما صدقوا الخرافات العنصرية الغربية التي تقوم على تفوق الرجل الأبيض ودوره التاريخي في تمدن البشرية وحقه في السيطرة على العالم، فلم يتمكن الحالمون من شحذ هممهم وعزائمهم لتحقيق أهدافهم، وكان من أهم أسباب الفشل أنهم لم يتمكنوا من توظيف تجاربهم التاريخية لبناء مستقبلهم.
وعندما حققت بعض الدول الأفريقية والآسيوية استقلالها الشكلي، وانسحبت جيوش المستعمر القديم، تطلع قادة هذه الدول إلى الاشتراكية كأساس لبناء تجربتهم الجديدة، فقد كانوا يعرفون أن الرأسمالية أيديولوجية المستعمر، وأن شعوبهم ترفضها لأنها وسيلة لنهب ثرواتهم.
لكن الاشتراكية فشلت لأنها لم تكن نابعة من تجاربهم التاريخية، ولم تشعر الجماهير بأنها يمكن أن تحقق حلمهم، فقد وفرت لهم المساواة في الفقر، في حين استمر المستعمر القديم في نهب ثرواتهم، ويعطي الفتات لقادتهم ونخبهم ليتمتعوا بحياة مرفهة، وينسوا آلام شعبهم، ومآسي قومهم.
أرطغرل والحلم التركي
من الواضح أن مسلسل أرطغرل كان له دور مهم في زيادة قوة الدولة التركية، فقد أسهم في صياغة الحلم، وثقة الشعب التركي في تحقيقه. وهذا الحلم لا يقوم فقط علي أساس بناء القوة المادية الصلبة والمكانة الاقتصادية والسياسية، لكنه أيضا يقوم على منظومة القيم التي عبر عنها المسلسل، ومن أهمها العدل.
وهذا يفسر مقاومة الشعب التركي للانقلاب الذي يتعارض مع منظومة القيم التي تم الاتفاق عليها، ومن أهمها الديمقراطية، والحلم الذي ترسخ في وجدانهم بعد مشاهدة تجربة تاريخية ملأت نفوسهم شعورا بالعزة والكرامة والقدرة على تحقيق الإنجازات الحضارية، والبطولة والمقاومة والكفاح، لذلك كان من الطبيعي أن ينزل الأتراك إلى الشوارع يتصدون للدبابات بأجسادهم ليحموا ديمقراطيتهم وحريتهم، ويكملوا الطريق لتحقيق حلمهم.
ومن الواضح أن الغرب أدرك ذلك جيدا؛ فالشعب الذي يعمل لتحقيق حلمه، ويكافح دفاعا عن منظومة القيم التي اتفق عليها، ويثق في قدرته على تحقيق الحلم؛ من الصعب مواجهته.
وهكذا تحولت التجربة التاريخية التي صورها مسلسل أرطغرل إلى مصدر قوة للشعب والدولة، فأصبح أرطغرل قدوة في رجولته وبطولته وعزة نفسه وتمسكه بالمبادئ والقيم، وكفاحه لتحقيق العدل.
مصدر قوة للأمة
مسلسل أرطغرل لم يكن مصدر قوة لتركيا فقط، لكنه عبر عن أشواق الشعوب العربية للمجد والبطولة والعزة، وهذا يفسر نسبة المشاهدة العالية في كل الدول العربية، فهناك كثير من المؤشرات على تفاعل الجمهور العربي مع المسلسل، وحبه لأبطاله الذين كانوا يعبرون عن عزة الإسلام، وقوة المسلمين، وقدرتهم على تغيير الواقع؛ وهذا يعني أن هذا المسلسل أشبع احتياجات الجمهور في بحثه عن معنى للحياة بعد أن ضاق هذا الجمهور بالواقع الكئيب، وحالة الضعف العربي، والهزائم المتكررة، والنظم الحاكمة التي لا تطمح إلا لتحقيق الاستقرار.
هناك مؤشر مهم أيضا هو أن كثيرا من الذين تفاعلوا مع المسلسل لم يكونوا فقراء، ولكن كانوا أغنياء كما حدث في الخليج، خاصة الكويت، وهذا يعني أن كثيرا من العرب أصبحوا يبحثون عن المجد والعزة، ويشتاقون للبطولة؛ فالحلم أعظم من الخبز والأمن.
مواجهة تزييف التاريخ
رغم أن النظم العربية عملت منذ عقود طويلة على تشويه صورة الدولة العثمانية، ونسبة كل السمات السلبية إليها، وشيطنتها، فإن هذا المسلسل أوضح أن عملية تزييف النظم العربية لتاريخ الدولة العثمانية قد فشلت، وأن الشعوب تشتاق إلى زمن السيادة والمجد، وترفض الضعف والتبعية.
حالة تفاعل الشعوب العربية مع المسلسل توضح أن هذه الشعوب تريد أبطالا وقوة وقدوة ومجدا وإنجازات حضارية، وتميز أهل الكويت الذين يتمتعون بالغنى والاستقرار والأمن بحبهم لهذا المسلسل وأبطاله، خاصة أرطغرل، وهذا يعني أن المسلسل يحمل رسالة للشعوب؛ هي أن الإيمان هو الذي يجعل للحياة معنى، ويملأ النفوس عزا وثقة بالله وكرامة وحبا للحرية والعدل.
إن الشعوب العربية أصبحت تتطلع إلى القيام بدور تاريخي كالذي قام به أسلافهم عندما حملوا رسالة الإسلام إلى البشرية ليحرروها من العبودية لغير الله.
والحياة مهما توفر فيها من غنى وثروة واستقرار لا معنى لها من دون رسالة ووظيفة حضارية، وثبات على الحق، ودفاع عن المبادئ والقيم.
لذلك كان مسلسل أرطغرل يعبر عن شعور عام في الأمة الإسلامية كلها بعد سنوات من التجهيل والتغريب، وعن أشواقها للقيام بوظيفتها الحضارية، وتطلعها للعزة والمجد والسيادة، وإعجابها بالرجال الذين يدافعون عن مبادئ الإسلام، ويغيّرون الواقع كما فعل أرطغرل.
دراسة احتياجات الشعوب
وإذا كان مسلسل أرطغرل حقق كل تلك النتائج المهمة، وأسهم في بناء قوة الأمة رغم أن شخصية أرطغرل جاءت قبل بناء الدولة العثمانية، فماذا يمكن أن تفعل مسلسلات عن محمد الفاتح وسليم الأول وسليمان القانوني وصلاح الدين الأيوبي وهارون الرشيد؟! وماذا يمكن أن تفعل مسلسلات عن الثورة الجزائرية وفتح الأندلس على سبيل المثال؟
إننا يمكن أيضا أن نلاحظ فشل مسلسل مثل طومان باي، وهذا يوضح وعي الشعوب، وبحثها عن المعاني والقيم التي تشبع حاجتها لمعرفة بطولات القادة الحقيقيين الذين يدافعون عن الحق والعدل، لذلك أحبت الشعوب أرطغرل، وتفاعلت مع كل أبطال المسلسل.
إن صناعة الدراما التاريخية تحتاج إلى دراسة حاجات الشعوب في فترة زمنية معينة؛ لذلك يمكن أن تسهم علوم الاتصال والإعلام والرأي العام وعلم النفس والاجتماع في إضاءة الطريق لصناع الدراما التاريخية، التي لا يمكن أن تنجح باستخدام ممثلين مشهورين أو مخرجين مبدعين فقط، ولكن يمكن أن تتقبلها الشعوب عندما تعبر عن أشواقها للحرية والعدل والمجد والسيادة، وعندما تصور قادة حقيقيين يتميزون بالرجولة والبطولة والثبات على الحق.
والأمة تحتاج إلى مسلسلات وأفلام تصور الحياة في أيام المجد والانتصارات والتمكين، وتقدم الأبطال ليكونوا قدوة للشباب الذي يجب أن يتم إعداده ليقوم بوظيفته الحضارية، ويحمل رسالة الإسلام إلى البشرية. والشعوب يمكن أن تتفاعل مع هذه المسلسلات لأنها تشبع احتياجاتها، وتضيء لها طريق المستقبل الذي يجب أن يقوم على الثبات على الحق، والدفاع عن الحرية والعدل، وبناء مجتمع المعرفة، وتحقيق الاستقلال الشامل.
إننا يمكن أن نلاحظ أيضا كيف كان الجمهور العربي يكره الخونة في مسلسل أرطغرل، ويفرح بقتلهم، وهذا مؤشر مهم على أن المشاهد قد ضاق بالواقع المر، ويحتاج إلى تغييره، ويحلم بقادة أبطال يتميزون بالأصالة والشجاعة والثبات على الحق، ويريد مسلسلات تعبر عن حلمه في بناء مجتمعات يقودها رجال ينتمون للأمة، ويواجهون أعداءها بقوة الإيمان والضمير والعقل والقلب.
والعرب يتميزون طوال تاريخهم بأنهم يكرهون الخيانة ويعدّونها عارا، ويحتقرون الخائن مهما كانت مكانته، ويعجبون بمن يثبتون على الحق، ويقدمون أرواحهم فداء لدينهم ودفاعا عن حرية شعوبهم واستقلال أوطانهم.
فهل يمكن أن نجد دولة عربية تتبنى مشروع إنشاء شركات إنتاج دراما تاريخية تسهم في بناء حلم الأمة في تحقيق الاستقلال الشامل وحرية الإنسان والأوطان وتسهم في بناء مجتمع المعرفة؟!
سليمان صالح
أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة ووكيل لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس 2012