المصالحة التركية السعودية وتأثيراتها الإقليمية
عادة ما تؤدي العلاقات الشخصية التي يقيمها القادة فيما بينهم دورا مهما في تشكيل العلاقات بين بلدانهم؛ بل إنها في بعض الأحيان يكون لها دور حاسم في تحديد مسار هذه العلاقات وإذا ما كانت جيدة أو سيئة. في حالتي تركيا والسعودية، يبرز بوضوح تأثير هذا العامل على علاقات البلدين؛ فعندما تولى الملك سلمان بن عبد العزيز قيادة المملكة عام 2015، نشأت علاقة متميزة بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكان لها دور مهم في دفع البلدين إلى تبني مقاربات متشابهة في قضايا إقليمية رئيسية كاليمن والدور الإيراني في المنطقة.
رغم أن أردوغان سعى لإقامة علاقة جيدة مع الأمير الشاب عندما اجتمعا في مدينة جدة السعودية بعد نحو شهر ونصف على اندلاع الأزمة الخليجية، فإن الأمر بدا صعبًا خصوصًا مع تمسك الرياض بمطالبها المتعلقة بقطر، فضلا عن الشراكة الوثيقة التي أقامها الأمير بن سلمان مع ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد
وبعد إطلاق السعودية عملية عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن في مارس/آذار من العام نفسه، أبدت تركيا دعمها للعملية وانتقدت بشدة الدور الإيراني في الإقليم. وبعد ذلك بأشهر، استقبل أردوغان الملك سلمان في أنقرة ومنحه وسام الجمهورية، ووصفه بأنه ضمانة للاستقرار والأمن في المنطقة. قبل ذلك، كانت أنقرة والرياض على خط واحد إزاء الصراع السوري، وقدمتا مختلف أنواع الدعم للمعارضة السورية على الرغم من أن تلك الفترة لم تخل من تباين في مواقف البلدين إزاء الربيع العربي وصعود تيار الإسلام السياسي.
لكن هذا المنحى المستقر في العلاقات بدأ بالتحول منتصف عام 2017، عندما فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصارا على قطر وفرضت عليها شروطا لإنهاء الأزمة، من بينها إغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر. كان التحول السعودي اللافت وقتها نحو تبني خطاب مناهض لتركيا ودورها الإقليمي مدفوعا بمجموعة من العوامل، على رأسها صعود نجم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
رغم أن أردوغان سعى لإقامة علاقة جيدة مع الأمير الشاب عندما اجتمعا في مدينة جدة السعودية بعد نحو شهر ونصف على اندلاع الأزمة الخليجية، فإن الأمر بدا صعبًا خصوصًا مع تمسك الرياض بمطالبها المتعلقة بقطر، فضلا عن الشراكة الوثيقة التي أقامها الأمير بن سلمان مع ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد، والتي أسهمت في دفع الرياض إلى الانخراط في تحالف إقليمي مع أبو ظبي والقاهرة لمواجهة تيار الإسلام السياسي ومحاولة إضعاف تأثير تركيا، الذي تنامى في المنطقة بعد الربيع العربي. كانت النظرة السائدة في العواصم الثلاث لعلاقة أنقرة الجيدة بجماعة الإخوان المسلمين على أنها تهديد لاستقرار أنظمة الحكم في الدول المناهضة للربيع العربي.
رغم ذلك، ظل الخلاف بين تركيا والسعودية بشأن مقاربتهما للوضع الإقليمي غير ظاهر بشكل حاد -كما الحال مع كل من مصر والإمارات- إلى أن جاءت أزمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول عام 2018، لتُحول الخلاف إلى خصومة برزت على شكل انتقادات حادة في الإعلام السعودي لتركيا ودورها الإقليمي والمقاطعة السعودية غير الرسمية للبضائع التركية.
من جانبها، تخلت أنقرة عن نبرتها المتحفظة تجاه السعودية. مع ذلك، سعى أردوغان إلى عزل علاقته الشخصية مع الملك سلمان عن هذا الخلاف. في بداية الأزمة الخليجية، وصف أردوغان الملك سلمان بأنه “كبير الخليج”، كما حافظ على التواصل الهاتفي المستمر مع العاهل السعودي، أملا في إبقاء مساحة لإنهاء الأزمة. بالإضافة إلى الأزمة الخليجية وقضية خاشقجي، كانت العوامل الإقليمية والدولية السائدة في تلك الفترة غير مساعدة على إعادة ترميم العلاقات التركية السعودية. حقيقة تناغم السياسات السعودية مع الإمارات ومصر بشأن تركيا والدور السلبي الذي لعبته إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في تأجيج الأزمة الخليجية والخلافات التركية العربية عقّدا بشكل خاص من الأزمة بين أنقرة والرياض.
لكن التحولات الدراماتيكية التي ظهرت في المنطقة مطلع العام الماضي خلقت مسارا جديدا في العلاقات التركية العربية بعدما يقرب من عقد من التنافس الحاد على إعادة تشكيل الوضع الإقليمي. ففي مايو/أيار 2021، دخلت أنقرة في مفاوضات لإصلاح العلاقات مع مصر، أعقبها إبرام مصالحة مع الإمارات تُوجت بزيارة ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد إلى أنقرة نهاية العام الماضي. وفي مارس/آذار الماضي، استقبل الرئيس رجب طيب أردوغان نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، مُعلنا فتح صفحة جديدة في العلاقات مع إسرائيل.
انتهجت تركيا إستراتيجية تجزئة الخلافات مع خصومها الإقليميين، مما ساعدها في تهيئة الأرضية لمرحلة المصالحة مع السعودية. وفي يوم 28 أبريل/نيسان الماضي، أجرى أردوغان زيارة إلى المملكة فتحت آفاقا جديدة في علاقات البلدين. وقبل الزيارة بأسابيع، أوقفت محكمة تركية الإجراءات القانونية ضد 26 سعوديا يشتبه بتورطهم في قتل خاشقجي، وأحالت القضية إلى السعودية. ويُعتقد على نطاق واسع أن هذه الخطوة كانت شرطا سعوديا أساسيا للبدء في إصلاح العلاقات.
يعزو كثيرون انعطافة تركيا نحو إصلاح علاقاتها مع خصومها الإقليميين السابقين -بما فيهم السعودية- إلى حاجة أردوغان لتحسين العلاقات الاقتصادية مع الدول الخليجية من أجل مواجهة الصعوبات التي تُعانيها بلاده مع اقترابها من انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة العام المقبل.
يبدو هذا التفسير منطقيا بالنظر إلى الأهمية التي يُمثلها التعاون التجاري والاقتصادي لتركيا مع دول الخليج، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العامل الاقتصادي نفسه شكل حافزا لدى الإمارات والسعودية لإنهاء الأزمة مع تركيا، حيث تنظر كل من الرياض وأبو ظبي إلى المكانة المهمة التي تكتسبها تركيا على صعيد طرق التجارة الجديدة وإمدادات الطاقة العالمية، فضلا عن كونها سوقا واعدة للاستثمارات. على غرار عملية المصالحة مع الإمارات، يُشكل الاقتصاد بوابة للمصالحة التركية مع السعودية حيث بدت الاستجابة الأولية السعودية على شكل إغراءات اقتصادية مع اعتزام المملكة تكثيف مشترياتها من السلع التركية وإعادة الصادرات التركية إليها إلى طبيعتها بمُجرد إعلان البلدين تحسين العلاقات بعدما تراجعت بشكل حاد خلال سنوات الأزمة. علاوة على ذلك، تدفع التحديات التي فرضها فيروس كورونا على اقتصادات المنطقة دولها -بما فيها تركيا والسعودية- إلى إعادة تركيز أولوياتها الخارجية للتعافي من تداعيات الوباء.
لكن العامل الاقتصادي لا يبدو وحده كافيا لتفسير التحولات الجارية في العلاقات التركية العربية والتركية الخليجية على وجه التحديد؛ فبالإضافة إلى المنافع الاقتصادية التي يتطلع إليها الطرفان من وراء إصلاح العلاقات، تبرز مجموعة من العوامل الأخرى المهمة والحاسمة التي دفعت أنقرة والرياض -كما أنقرة وأبو ظبي- إلى إحداث تحول جذري في العلاقات من الخصومة نحو التعاون ويُمكن تلخيصها في 3 عوامل رئيسية، في ما يلي:
أولا: خفض التصعيد الإقليمي
بدايات العام الماضي، بدأ الاستقطاب الإقليمي الذي عاشته المنطقة لنحو عقد بالتقلص مع ميل دول الإقليم إلى خفض التصعيد وإعادة توجيه سياساتها الخارجية؛ إذ شكل تحول تركيا نحو الحد من خلافاتها الإقليمية إلى جانب إنهاء الأزمة الخليجية واتفاق المرحلة الانتقالية في ليبيا، التي كانت إحدى ساحات التنافس الإقليمي بالوكالة، حافزا لدى تركيا وكل من السعودية والإمارات ومصر على استكشاف سبل طي مرحلة الخصومة. علاوة على ذلك، وصلت هذه الأطراف إلى قناعة بأن التنافس بينها على مدى 10 سنوات لم يؤد إلى تغيير جوهري في الوضع الإقليمي لصالح أي منها بقدر ما شكل استنزافا لفرص التعاون بينها لمعالجة الأزمات الإقليمية التي أثرت بشكل سلبي على مصالحها. كما ساعد هذا الاستنزاف قوى أخرى منافسة لها كإيران في تعزيز دورها الإقليمي.
ثانيا: تحول السياسة الأميركية في المنطقة عقب تولي بايدن السلطة
بالنظر إلى أن التحول الذي طرأ على السياسة الأميركية في المنطقة عقب تولي الرئيس جو بايدن السلطة أثار قلقا مشتركا لدى تركيا والسعودية والإمارات من سياسات بايدن المتشددة تجاهها مقارنة بترامب، واتجاهها إلى تقليص انخراطها في قضايا المنطقة للتركيز على التحديات الأخرى التي تُمثلها كل من الصين وروسيا، فإن ذلك شكل حافزا إضافيا لدى القوى الإقليمية الفاعلة على إنهاء خلافاتها ومحاولة التفاهم بشأن كيفية إدارة الوضع الإقليمي في مرحلة ما بعد تراجع الدور الأميركي.
يُمكن قراءة جوانب التحولات الإقليمية الناجمة عن التحول الأميركي على أنها وسيلة تحوط لهذه القوى من أجل التكيف السريع مع تداعياته على الوضع الإقليمي. علاوة على ذلك، فإن حاجة السعودية والإمارات إلى البحث عن بدائل أخرى لتلبية احتياجاتهما الأمنية تدفعهما إلى الاهتمام بصناعات الدفاع التركية الصاعدة التي أظهرت كفاءة كبيرة في تغيير مسار صراعات عديدة كسوريا وليبيا وجنوب القوقاز. بالإضافة إلى ذلك، فإن عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والأهمية التي يوليها الغرب لها لموازنة الدور الروسي في مناطق عديدة يزيد من أهميتها الإستراتيجية بالنسبة لدول المنطقة.
ثالثا: تراجع الالتزام التركي بدعم تيار الإسلام السياسي في المنطقة
كان هذا الدعم بعد اندلاع الربيع العربي أساسا لبروز الخلافات بين تركيا وكل من السعودية ومصر والإمارات. ومع شروع أنقرة في مفاوضات لإنهاء القطيعة مع القاهرة، بدأ التحول التركي تجاه الإخوان المسلمين بالبروز مع فرض قيود على عمل وسائل الإعلام التابعة للجماعة في تركيا. كان للانتكاسة التي منيت بها جماعة الإخوان بعد الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013، ثم تراجعها في دول أخرى، دور رئيسي في دفع أنقرة إلى التركيز على استعادة علاقاتها التقليدية مع القوى العربية المناهضة للإسلام السياسي. ورغم أن تركيا سعت لتسويق علاقاتها بالإخوان المسلمين من منطلق دعم التحولات العربية التي أفرزتها صناديق الاقتراع في عدد من الدول العربية، فإنها وصلت بعد سنوات إلى قناعة بأن أضرار التمسك بهذه المقاربة تفوق منافعها، لا سيما بعد أن أظهر التيار المناهض للإسلام السياسي قدرته على تغيير مسار المنطقة بعد الربيع العربي.
إعادة ترميم الثقة
تسهم زيارة أردوغان إلى السعودية في تهيئة الأرضية المناسبة لفتح صفحة جديدة في العلاقات، إلا أن إزالة الرواسب الناجمة عن أزمة خاشقجي تتطلب المزيد من الجهد لإعادة ترميم الثقة بين القيادتين السعودية والتركية. في الوقت الراهن، من المتوقع أن تبرز نتائج الزيارة في انتهاء الحظر السعودي غير الرسمي على البضائع التركية واستئناف الشركات التركية أعمالها في السعودية، فضلا عن التقارب المحتمل في مجال التجارة. لكن تطوير هذا الانفتاح إلى تعاون سياسي يتوقف على تقييم كل من أنقرة والرياض للتقدم التدريجي المحرز. انطلاقا من ذلك، يُمكن التنبؤ بأن العصر الجديد في العلاقات السعودية التركية سيتصاعد بزخم في المرحلة المقبلة، مدفوعا بشكل رئيسي برغبة البلدين في التعاون الإقليمي لاحتواء النفوذ الإيراني الذي يُتوقع أن يكتسب زخما أكبر مع اتجاه إدارة بايدن إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي مع طهران ورغبتها في دفع حلفائها في المنطقة إلى تشكيل تكتل لتولي مسؤوليات أكبر في إدارة الوضع الإقليمي في المستقبل.
محمود علوش
باحث في العلاقات الدولية