مقالات و أراء

انتخابات تركيا.. ثلاثة عوامل حاسمة

محمود علوش – الجزيرة

تستعد تركيا بعد شهرين لإجراء أكثر استحقاقاتها الانتخابية أهمية منذ تأسيس الجمهورية قبل قرن، من حيث كونها تُشكل اختبارا صعبا للرئيس رجب طيب أردوغان لتتويج عقدين من حكمه بولاية رئاسية جديدة وأخيرة، ومن حيث الاستقطاب السياسي والمجتمعي الحاد الذي يُصاحبها والظروف الاستثنائية المحيطة بها بفعل تداعيات الزلزال المدمر والتضخم المرتفع، فضلاً عن أنها تأتي في لحظة تحوّلات عالمية كبيرة ليست أنقرة بعيدة عنها.

وعلى عكس الاستحقاقات الانتخابية التي جرت خلال العقدين الماضيين وتمكن حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة أردوغان من الفوز في جميعها والحفاظ على السلطة مع استثناء الانتخابات المحلية التي جرت عام 2019، فإن الانتخابات المقبلة مختلفة إلى حد كبير. فهي المرة الأولى التي يواجه فيها أردوغان تحالفا يضم 6 أحزاب معارضة بينها حزبان كبيران، كما أنها ليست منافسة تقليدية بين ائتلافين -حاكم ومعارض- بقدر ما هي صراع على تحديد هوية تركيا في قرنها الثاني.

فالمعارضة التي تسعى لهزيمة أردوغان، لا تُريد الوصول إلى السلطة فحسب، بل تسعى لتغيير النظام السياسي وإدارة اقتصادية مختلفة جذريا عن إدارة أردوغان وتعد بتبني نهج مختلف كليا عنه في السياسة الخارجية.

وما يُضفي غموضا عشية الانتخابات أن كلًّا من أردوغان والمعارضة يعتقدان أنّهما سيفوزان. فمن جانب، ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة وتداعيات الزلزال، وقّع أردوغان مرسوما بالدعوة إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 14 مايو/أيار قبل شهر من موعدها الأصلي في خطوة عكست ثقته بقدرته على الفوز، وتتحدى الافتراض السائد بأن المعارضة تمتلك فرصة كبيرة للإطاحة بحكم حزب العدالة والتنمية.

ومن جانب آخر، نجح التحالف السداسي المعارض في تقديم جبهة موحدة لخوض الانتخابات والاتفاق على ترشيح زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو للرئاسة، لكنّ الأزمة القصيرة التي عصفت به على خلفية المرشح الرئاسي المشترك، كشفت هشاشة التحالف وصراع الإرادات بين أكبر مكونين فيه.

ومع أنّه يصعب الأخذ بالمطلق باستطلاعات الرأي التي ينشرها كل من التحالف الحاكم والمعارضة وحتى الاستطلاعات التي توصف بالمستقلة، فإنه يمكن الاستناد عليها جزئيا مع دراسة 3 عوامل أخرى من أجل تفكيك الغموض الانتخابي والوصول إلى استنتاج واقعي مسبق للانتخابات المقبلة.

موازين القوى بين أردوغان وكليجدار أوغلو

تنحصر المنافسة الرئاسية بين شخصيتين بارزتين هما أردوغان عن تحالف الجمهور وكليجدار أوغلو عن تحالف الأمة المعارض. ويُمكن أن تنضم شخصيات أخرى إلى السباق الرئاسي، لكنّ المنافسة ستتركز بين أردوغان وكليجدار أوغلو بالنظر إلى الثقل الانتخابي الكبير لكليهما. مع الأخذ بعين الاعتبار أن أردوغان لديه خبرة واسعة في قيادة المنافسة الانتخابية وإرث سياسي كبير كنتيجة لعقدين من الحكم، ولذا فإن السؤال هو ما إذا كان كليجدار أوغلو قادرا على المنافسة؟

تلعب اثنتان من المُحددات دورا بارزا في هذه المنافسة، الأولى هي المهارة الشخصية للمرشح في مخاطبة الجمهور وإقناعه بأنه سيكون الأفضل له، والثانية هي الحيثية السياسية والثقل الانتخابي.

في الأولى، يتفوق أردوغان بوضوح على كليجدار أوغلو، كونه يتمتع بزعامة تجاوزت حيثيته الحزبية وكاريزما استثنائية في مخاطبة الجمهور على عكس كليجدار أوغلو الذي بقي حضوره السياسي محصورا داخل حزب الشعب الجمهوري، ولم يسبق له أن خاض حملة رئاسية، ما يجعل هذه المنافسة غير متكافئة على المستوى الشخصي. علاوة على ذلك، فإن قدرة كليجدار أوغلو على الوصول إلى وسائل الإعلام لمخاطبة الجمهور تبدو محدودة إلى حد كبير مقارنة بأردوغان.

أما في الثانية، فإن المنافسة تبدو متكافئة نسبيا، فبينما القاعدة التصويتية الأساسية لأردوغان تتشكل من الكتلة الانتخابية الصلبة لكل من حزب العدالة والتنمية وحليفه الحركة القومية، فإن القاعدة التصويتية الأساسية لكليجدار أوغلو تتشكل من الكتلة الانتخابية الصلبة لـ6 أحزاب معارضة منضوية في التحالف السداسي.

وأشارت أحدث استطلاعات الرأي المستقلة إلى أن نسبة التأييد للتحالف الحاكم تتراوح بين 40 إلى 41%، بينما لم تُقدم نسبة التأييد للتحالف السداسي المعارض. لكنّ مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكتلة التصويتية لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي لم يحسم بعد تموضعه في الانتخابات، تتراوح بين 10 إلى 11%، فإن ما يبدو واضحا أن كلاً من أردوغان وكليجدار أوغلو غير قادر على الوصول إلى نسبة الخمسين زائد واحد (50% + 1) المطلوبة لحسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى على افتراض أن حزب الشعوب الديمقراطي سيخوض الانتخابات بشكل مستقل وربما بمرشح رئاسي خاص به، وبالتالي فإن السباق الرئاسي قد يُحسم في الجولة الثانية.

هنا يبرز رهانان مختلفان، فمن جهته يُعول أردوغان على أن كليجدار أوغلو، ذا الميول العلمانية العميقة، لن يتمكن من كسب الأصوات المحافظة التي لم تحسم خياراتها بعد، وكذلك الأصوات المحافظة من القاعدة الانتخابية للأحزاب الأخرى المنضوية في التحالف السداسي كأحزاب الجيد والسعادة والمستقبل ودواء، وهو ما يُضعف الكتلة التصويتية للمعارضة.

وفي المقابل، يُراهن كليجدار أوغلو على استمالة أصوات حزب الشعوب الديمقراطي في الجولة الأولى، في حال التوصل إلى صفقة معه، أو في الجولة الثانية للفوز في الرئاسة وتعويض فقدان الأصوات المحافظة في تكتل المعارضة.

حدود تماسك جبهة المعارضة

قدّم تحالف المعارضة السداسي حتى الآن أداء قويا وجبهة متماسكة نسبيا رغم الأيديولوجيات المتناقضة لمكوّناته (يسار، يمين، قومي، محافظ، ليبرالي..)، لكنّ الأزمة الأخيرة التي عصفت به على خلفية مسألة المرشح الرئاسي المشترك كشفت هشاشة هذه الوحدة. وبدا أن التحالف نجح في تجاوز هذه الأزمة، لكنّ الكثير من المسائل داخل التحالف لا تزال بحاجة إلى توافق على رأسها القوائم البرلمانية المشتركة التي ستخوض على أساسها أحزاب المعارضة الانتخابات التشريعية.

علاوة على ذلك، فإن الصلاحيات المقترحة لنواب الرئيس قد تُشكل نقطة خلاف قابلة لتهديد تناغم التحالف. وتنص خارطة الطريق الانتقالية للمعارضة على أن الرئيس سيتخذ قراراته في القضايا الكبرى بالتوافق مع نوابه الخمسة وليس بالتشاور وهو ما يجعل الرئيس تحت وصاية قادة الأحزاب الخمسة الأخرى داخل التحالف السداسي.

كما أنّه يحق لأي رئيس حزب في الطاولة عرقلة القرارات الرئاسية الكبرى بغض النظر عن حجمه التمثيلي. يكمن التحدي الأكبر الذي يواجه تحالف المعارضة في الفترة القصيرة المتبقية للانتخابات في كيفية إقناع الناخبين بأنه قادر على إحداث استقرار سياسي في السلطة بعد الفوضى الأخيرة التي لحقت به، وهي مسألة نفسية تؤثر على السلوك التصويتي للناخب عموما والمُتردد على وجه الخصوص الذي تشكل أصواته نحو 10%، لذا فإن نجاح أي من التحالفين الحاكم والمعارض في استمالة الأصوات المترددة سيكون مؤثرا في حسم نتائج الانتخابات.

اتجاهات الصوت الكردي

في ضوء إجماع استطلاعات الرأي -في غالبيتها- على صعوبة حسم أي من التحالفين للانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، فإن الأصوات الأخرى لا سيما الكردية ستكون حاسمة في ترجيح الكفة الانتخابية لأي من التحالفين، سواء في الجولة الأولى أو في الثانية.

ومن الواضح أن أيا من التحالفين غير قادر على ضم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي إليه بسبب العنصر القومي المؤثر في الجبهتين (حزب الحركة القومية في تحالف الجمهور والحزب الجيد في تحالف الأمة)، لكنّ الحزب الكردي يلتقي مع المعارضة على هدف هزيمة أردوغان وأبدى استعداده لدعم كليجدار أوغلو، لكنّه اشترط ذلك بانفتاح التحالف السداسي على الحوار معه. من المؤكد أن هذه القضية تواجه تعقيدات كبيرة داخل تحالف المعارضة في ضوء الموقف المتشدد للحزب الجيد الذي يرفض انضمام حزب الشعوب للطاولة السداسية.

وينبع رفض ميرال أكشينار من أنها تتخوف من أن يؤدي تحالف مُعلن مع حزب الشعوب إلى انقسام داخل الحزب الجيد وعودة الأصوات القومية إلى حزب الحركة القومية الأم. وستكون كيفية تقديم حزب الشعوب الدعم لكليجدار أوغلو أكبر مُشكلة تواجه المعارضة في الفترة المتبقية للانتخابات، حيث إن الدعم العلني يُمكن أن يؤدي إلى خسارة 5% من الأصوات (القومية) في الحزب الجيد ونحو 3% من الأصوات (القومية) في حزب الشعب الجمهوري، وهو ما يعني أن الأصوات المحتملة القادمة من حزب الشعوب الديمقراطي لدعم كليجدار أوغلو ربما تُعادل تلك التي سيخسرها التحالف السداسي.

علاوة على ذلك، فإن مستقبل حزب الشعوب الديمقراطي لا يزال غير واضح في ضوء القضية المرفوعة ضدّه أمام المحكمة الدستورية العليا، والتي قد تؤدي إلى إغلاقه وحرمانه أساسا من خوض الانتخابات.

زر الذهاب إلى الأعلى