تطبيع العلاقات بين أنقرة والقاهرة بعيدا عن مراهقي السياسة
ياسر عبد العزيز
“من أجل مصر قدمت معاهدة 1936، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها”.. مقولة خلّدها تاريخ مصر عن زعيمها في حينها مصطفى النحاس، عندما طالب البرلمان بإلغاء معاهدة 1936 مع الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر.
استحضرني هذا المأثور، عندما رأيت التفاعل الإعلامي التبريري لزيارة السيسي لأنقرة، وهي الأولى له منذ أن صعد إلى قمة هرم السلطة في مصر، وهنا أنا لا أتحدث عن إعلام النظام في مصر، بل عن الإعلام التركي الموالي، الذي فعل نفس الشيء، وعن ردة فعل المعارضة في كلا البلدين، فكما برر الإعلام الموالي ذّكر الإعلام التقليدي ومنصات التواصل المعارضة بمواقف الرجلين اللذين تصافحا؛ وكان قد أقسما بأغلظ الأيمان ألا يفعلا.
وهنا يجب أن تحضر روح الزعيم البريطاني تشرشل كي يضع بصمته على الزيارة بقوله: “لا عداء دائم، ولا صداقة دائمة، بل مصالح دائمة”.
بتوقيع 17 مذكرة تفاهم في مجالات التعليم العالي، والسكك الحديد، والطيران المدني، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتعاون العلمي والاقتصادي والفني في الزراعة، والصحة والعلوم الطبية، ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة وتطويرها، والسياحة والثقافة، والموضوعات المالية والاقتصادية، والعمل والتوظيف، وحماية البيئة، والتطوير العمراني، يمكن فهم مغزى الزيارة، وبالتفاهم أو محاولة التفاهم على قضايا مهمة واستراتيجية، مثل ترسيم الحدود البحرية، وغاز شرق المتوسط، والوجود التركي في ليبيا وسوريا، والوصول العسكري المصري للصومال، يتأكد فهم مغزى الزيارة.
في مقالات سابقة في هذا الشأن كان آخرها مقالا بمناسبة زيارة الرئيس التركي للقاهرة تحت عنوان “قطار المصالح يتجاوز الضرير والأسير” إشارات توصف الحالة التركية مع النظام في مصر وتعاطي المقاومة/ المعارضة المصرية في الخارج معها، لكن المستجد في زيارة رأس النظام في مصر لتركيا، هي المعطيات والمستجدات، لا سيما مع حالة الركود السياسي والاقتصادي في المنطقة الذي أنتجته الحرب في غزة، فالغبار الذي تحدثه الآلة العسكرية للكيان المحتل في غزة؛ أحدث حالة ضبابية أثرت إلى حد كبير على الرؤية المستقبلية للمنطقة، فالكل ينتظر اليوم التالي للحرب في غزة، وما ستفرزه من توزيع القوى والنفوذ .
لطالما أرّق منتدى غاز شرق المتوسط الإدارة التركة منذ تأسيسه في عام 2019، وهو ما أدى إلى توترات بين تركيا وعدد من الدول الأعضاء، فتركيا تعتبر نفسها دولة رئيسة في شرق المتوسط، وتهميشها سيعكس توترات إقليمية لا محالة حول الحدود البحرية وحقوق الغاز، إذ تعترض تركيا على ترسيم الحدود البحرية الذي أقرته بعض الدول الأعضاء في المنتدى، وتعده انتهاكا لحقوقها، ومع إرسال أنقرة سفنها للتنقيب عن الغاز زاد الأمر حدة، إذ تشعر تركيا بعزلة في وقت يسعى المنتدى لتطوير بنية تحتية لتصدير الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا، وهو ما يمكن أن يغير موازين الطاقة لتركيا فيما لو أصبحت شريكا، لذا فإن جر دولة كبيرة كمصر يعني الكثير في هذا السياق.
منتدى غاز شرق المتوسط يمثل تحديا كبيرا لتركيا، ليس فقط من الوجه الاقتصادية الذي يمثلها غاز المتوسط، بل من الناحية الجيوسياسية، ثم إنَّه يعد جزءا من التوجه لإعادة رسم الأدوار الإقليمية في شرق المتوسط، بل والشرق الأوسط. واستبعاد تركيا يهدف إلى تحجيم دورها كقوة رئيسية، ولعل توقيت زيارة رأس النظام في مصر يأتي ضمن سياقات أخرى يمكن أخذها في الاعتبار، في إطار قاعدة “الربح للجميع”، فعلى استحياء ذكر رأس النظام في مصر، في أثناء كلمته في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع الرئيس أردوغان، القرن الأفريقي وحالة الأمن فيه، لا سيما مع تصاعد التوترات بين الصومال وإثيوبيا، وتأثيرات ذلك على أمن وسلامة الملاحة في البحر الأحمر.
الوجود التركي في الصومال يعتبر جزءا من استراتيجية تركيا لتعزيز نفوذها في القرن الأفريقي ومنطقة شرق أفريقيا، ففي الوقت الذي أهملت القاهرة عمقها الاستراتيجي في أفريقيا منذ عهد الرئيس المخلوع مبارك، كانت تركيا تسعى بأدواتها الناعمة للنفاذ لواحدة من أهم الممرات البحرية في العالم، فتواجدت منذ عام 2011 في الصومال، ومنذ ذلك الحين، توسع تركيا دورها في القرن الأفريقي، حتى مع إثيوبيا، كدولة مهمة وكبيرة في هذه المنطقة، وهو دور لعبته الدبلوماسية والاقتصاد في تعزيز النفوذ الجيوسياسي لتركيا في بوابة التجارة بين آسيا وأفريقيا. وإمعانا في ترسيخ هذا الدور أنشأت تركيا قاعدة عسكرية في مقديشو، وهي أكبر قاعدة تدريب تركية خارج أراضيها.
منذ أيام بثت القنوات الإخبارية، خبر وصول قوات ومعدات مصرية للصومال، ولعل الهدف المعلن من وجود هذه القوات على أرض الصومال هو دعم جهود حفظ السلام والاستقرار في البلاد، لا سيما بعد حالة التوتر التي تشهدها المنطقة والتصعيد بين الصومال وإثيوبيا، لكن الأخيرة ترى في الوجود المصري على أراضي جارتها تهديدا لأمنها القومي. ولعله من الواضح أن هدف القاهرة من هذا الوجود هو تعزيز نفوذها في القرن الأفريقي، كما أنه يمكن أن ينظر إليه على أنه أيضا جزء من المنافسة الإقليمية بين مصر وتركيا، وإن كانت القاهرة تراه، ولعل الرؤية متأخرة بعد الملء الخامس لسد النهضة، لحماية أمنها القومي.
بعيدا عن الأهداف، فإن دخول القوات المصرية للصومال لم يكن ليصبح واقعا إلا بتفاهمات إقليمية، لعل أهمها التفاهم مع تركيا وشريكها في الدوحة، فقِدَم الدولتين في الصومال واستثماراتهما في مجالات الصحة والتعليم والبنى التحتية، والوجود الأمني والعسكري التركي على رأس كل ذلك؛ يجعل لزيارة رأس النظام المصري لأنقرة بُعدا آخر؛ يجب الوقوف عنده كثيرا، فالأهداف الاستراتيجية للدول تجعل النظر إلى مناكفات السياسة الداخلية أو النظرة الضيقة للأمور من مجموعات بعينها، والنرجسية السياسية، بتصور أن جهة معينة أو حزبا معينا أو جماعة معينة، هي محور الوجود، ومناط التكليف والأمر، هو طفولة سياسية يمكن أن يقع فيها العوام، ويزكيها الإعلام لكسب المشاهدات والإعجابات، أم الدول فتحكمها وتحركها المصالح، لكن يظل السؤال الأهم:
هل ستستطيع أنقرة أن تجني هذه المرة أرباحا في مقابل عطائها السخي للقاهرة؟!