رحيل داعية الأمل
يقول بعض الفلاسفة: “الإنسان نص غير مكتمل، لا يكتمل إلا عند موته”، وفي الإسلام تُغلق صحيفة أعمال الإنسان بالموت، ويموت المرء على ما عاش عليه. وبالطبع هناك أعمال جارية تستمر بعد موت الإنسان وتستمر في إضافة شيء إلى صحيفته. كآثاره الطيبة وأبنائه الصالحين وكتبه وأعماله وأصدقائه الذين يذكرونه بالخير. الله وحده يعلم كيف تؤثر شهاداتهم وكلماتهم الطيبة في صحف الأعمال المغلقة، ولكن من المؤكد أنهم مستمرون في ملء صحيفة المتوفى في هذه الدنيا.
عندما تلقيت في الصباح الباكر عبر مجموعة الواتساب خبر مرض زميلي وتدهور حالته الصحية ودخوله العناية المشددة بسبب مرض كان يعاني منه منذ فترة طويلة، دعوت الله له بالشفاء العاجل. وفي الوقت نفسه، كنت أتابع باهتمام وقلق شديدين كيف أصبح هذا الموضوع هو الشغل الشاغل للمجموعة التي عادة ما تكون نشطة جدًا. وعندما تلقيت خبر وفاته بعد بضع ساعات، لم أجد ما أقوله سوى “إنا لله وإنا إليه راجعون”، ولكن عندما نظرت إلى ما كتب عنه في المجموعة، رأيت كيف حظي الأستاذ أردال بايكان بصداقة عظيمة، وكيف أثرت هذه الصداقة على صحيفة أعماله، ففاضت عيناي بالدموع.
كنا نتواصل منذ فترة عبر مجموعة واتساب مميزة، حيث كنا نستمع إلى بعضنا البعض يوميًا تقريبًا، في جو من الانفتاح والتفاعل المستمر. كانت هذه المجموعة قد بدأت تحت إشراف الأستاذ نجدت سوباشي من خلال ورشات أعمال حول الدراسات العلوية والرومية، وتطورت لاحقًا لتصبح مكانًا استثنائيًا في العالم الافتراضي بفضل إدارته الفريدة وأدائه المميز. فأُنشِئَت بيئة مليئة بالصدق والجمال، حيث يستطيع الجميع بسهولة التواصل مع الآخرين ونقل أفكارهم. كانت المناقشات تشمل أحداث اليوم والقضايا المزمنة التقليدية والآمال المستقبلية، وتمتزج هذه الموضوعات معًا بانسجام تام.
هذا الحوار الذي كان يتسم بالرفقة والصداقة والإخلاص والمودة أضاف بُعدًا جديدًا للتواصل؛ إذ لم يسئ أحد فهم الآخر، وربما لم يكن أحد يركز على فهم كل كلمة بشكل دقيق، ولكن كان هناك إدراك مشترك، وكانت كل كلمة تُثري الحوار وتضيف إلى بَرَكته. لقد شكلت هذه الجلسات الحوارية التي بدأت في فترة الحجر الصحي مثالاً رائعًا على كيفية إتاحة أدوات التواصل الحديثة لنا أوساطاً مثمرة ومفيدة للغاية.
كان الأستاذ أردال أحد أكثر أعضاء المجموعة نشاطًا وصدقًا في مجموعة الأصدقاء هذه. وتعود معرفتي به إلى بداية التسعينيات، من جامعة “يوزونجو يل”، مرورًا بعمله في جامعة سلجوق، وصولاً إلى مشاركاته الأكاديمية والسياسية في أنقرة. ولكن يبدو أن هذه المجموعة كان آخر محطات رفقتنا.
منذ أن عرفته، كانت مواقفه دائمًا واضحة وصريحة، متجلية في انحيازه غير المشروط إلى الحق والحقيقة، بجانب المسلمين. كان شخصية مثالية تمزج بين الإخلاص والأدب مُظهرًا صدقًا وسموًا في التعامل وفضولًا فكريًا، ويقدم ثقة صادقة لمن يسيرون معه في درب الحياة. كان اهتمامه يمتد من القضايا السياسية الصغيرة إلى المشاكل السياسية الكبرى، وكانت اهتماماته الأكاديمية تنبع من فضوله الفكري، وتحمل دائماً طابعاً إسلامياً. لقد كانت صداقته، وإخلاصه لله وللرسول وللمسلمين، ملخص حياته. وبالطبع كان له رؤيته الخاصة وأسلوبه الفريد. فعلى سبيل المثال، كونه من مدينة أضنة كان أحد أبرز سماته التي تعكس شخصيته وأسلوبه. وكان يتناول القضايا والمواضيع بطريقة صادقة وواضحة، بلا تلاعب بالألفاظ، أو الالتفاف حول الأمور، بطريقة راقية للغاية ولكنها مباشرة وواضحة في الوقت نفسه.
وأحد آخر مؤلفاته كان عن “الإعلان الإسلامي” لعلي عزت بيغوفيتش (دار نشر جيزغي، قونية، 2016، 2022). وكان دائم البحث عن موقف يتميز بالوضوح والشفافية في البيان. كان “الإعلان الإسلامي” يعتبر بمثابة بيان إسلامي يتماشى تمامًا مع شخصيته ومواقفه. لقد قدم رؤية للإسلام مستندة بالكامل إلى القرآن والسنة، دون الانحناء للتيارات الحديثة أو التقاليد البالية، مع التركيز على مسؤولية الفرد، واعتبار العقل والنقد جزءًا من السنة. تمامًا كما فعل محمد عاكف أرسوي في “صفحات” وكما فعل سيد قطب في “معالم في الطريق”.
ورغم كل الأمراض والمعاناة والصعوبات التي عاشها، كان هناك أمل لا يتزعزع يضيء شخصيته. وكان هذا الأمل قائمًا على مبدأ ثابت. وفي مقالته التي كتبها في الحجر الصحي بعنوان “محادثات الحجر الصحي” (دار محيا، 2021)، وصف ما تعلمه خلال تلك الفترة، قائلاً: “لقد تعلمت أن الأمل يجب أن يكون موجودًا دائمًا حتى في أكثر الأوقات والظروف سلبية. كما اكتشفت أنه يمكن إنجاز أجمل الأعمال في أصعب الأوقات والظروف.” أعتقد أن هذا لم يكن شيئًا جديدًا تعلمه في “حوارات الحجر الصحي”، بل كان جزءًا من شخصيته منذ البداية. لكنه وجد هذا المبدأ مجددًا خلال تلك التجربة، وعاشه مرة أخرى ليعززه. وهذا هو السبب في استمرار تأكيده على مبدأ الأمل في قوله: “لقد قلنا إن الأمل يجب أن يكون موجودًا دائمًا. وقد علَّم هذا الحدث، الذي زاد من أملنا وجلب لنا المحبة والمودة، مئات الأشخاص مثلي أنه يمكنهم أن يحققوا إنجازات جديدة في أعمالهم”. وقد بدأ الفصل الأخير من كتابه عن “الإعلان الإسلامي” بتأكيد الأمل مجددًا قائلًا:
“في ظل كل خيبات الأمل والهزائم، فإن الأمل في النهضة الإسلامية هو اسم آخر للوجود. ولا يمكن لأي مسلم يعتبر الإسلام عنصرًا أساسيًا في حياته ـ وليس حدثًا عرضيًا ـ أن يرفض هذه الرؤية. لكن العديد من الناس سيسألون هذا السؤال في حيرة: من سيحقق هذه الرؤية وأين هم؟”
إن إنهاء هذا القسم بنفس الجمل الأخيرة التي ختم بها علي عزت كتابه بالتأكيد هو اختيار يعكس شخصية الأستاذ بايكان:
“بالنسبة لنا، لا يوجد سوى طريق يتطلب العمل والنضال والتضحية من أجله. وعندما نواجه الاختبارات، يجب أن يتذكر كل منا أننا نسعى إلى شيئين رضا الله وقبول الناس وهذا ما سيكون معنا دائمًا”.
وأود أن أشير هنا إلى أن التفاؤل الذي أبديته بشأن إمكانية وجود صداقة حقيقية في كتابي الذي حمل عنوان “حول الصداقة” قد تأثر بشكل خاص بشهاداتي الخاصة عن أصدقاء مثل إردال بايكان. وبعد وفاته، كان حضور الأصدقاء الذين شاركوا في جنازته سواء بحضورهم الشخصي أو عبر مجموعة الواتساب، واستمرارهم في ملء صحيفة أعمال أردال بايكان بالشهادات الجميلة والدعوات الطيبة حتى بعد وفاته، سبباً كافياً لإثبات هذا التفاؤل.
لقد انضم صديقنا أردال بايكان إلى قافلة المنتقلين إلى دار البقاء هذا العام. مثل الأستاذ سعيد شيمشك وميكائيل بيرام، اللذين كانا يعيشان في قونيا ولكن آفاقهما وعلومهما ومواقفهما تجاوزت قونيا. أسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يلهم أهله وجميع أصدقائه ومحبيه الصبر والسلوان. وأن يجعل مثواه الجنة، وأن يرفع درجته.
ياسين أقطاي – يني شفق