ربما هو قدر دولة مثل تركيا، أن تُحاط بكرات اللهب المتدحرجة من كل ناحية، ما يتطلب قدرًا عاليًا من الحكمة في التعامل معها، خشية أن تمتد تلك النيران إلى الداخل.
فلم تكد أنقرة تلتقط أنفاسها بعد زوال نظام بشار الأسد، حتى اشتعلت الحدود الشرقية مجددًا مع بدء العدوان الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية، الذي تطور إلى ضربات متبادلة.
إيران ليست مجرد دولة جارة لتركيا، بل تمثل امتدادًا تاريخيًا وثقافيًا مشتركًا، خاصة منذ عهد السلاجقة الذين زحفوا من آسيا الوسطى، وتمركزوا في غرب آسيا، قبل أن يوسّعوا نطاق نفوذهم إلى الأناضول.
ومع تأسيس الدولة الصفوية في القرن السادس عشر، وما رافقه من تباين مذهبي، تحولت العلاقة إلى صراع وتنافس، بلغ ذروته في موقعة جالديران عام 1514، ثم استقرت العلاقة بعد “صلح أماسيا” بين السلطان سليمان القانوني والشاه طهماسب الأول، وهو أول اتفاق سلام بين الدولتين، لا تزال آثاره حاضرة حتى اليوم رغم تغيّر الأنظمة.
التقدير الإستراتيجي التركي
تصريحات كبار المسؤولين الأتراك تشير إلى أن أنقرة لم تتفاجأ بالتصعيد الإسرائيلي.
ففي أكتوبر 2024، حذّر وزير الخارجية هاكان فيدان من احتمال اندلاع حرب بين إيران وإسرائيل، داعيًا إلى استعداد تركيا لتداعياتها.
أما الرئيس رجب طيب أردوغان، ورغم وجوده في إجازة، فقد أصدر بيانًا حمل عدة رسائل مهمة، أبرزها:
- تحميل إسرائيل مسؤولية التصعيد، واعتباره انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي.
- التحذير من سياسة نتنياهو التي تجر المنطقة نحو كارثة.
- ربط الهجمات بالمفاوضات النووية بين واشنطن وطهران، وبالضغوط الدولية على إسرائيل بشأن غزة.
- دعوة المجتمع الدولي لتحمّل مسؤوليته تجاه تهديد الأمن والاستقرار العالمي.
في سياق التحرك التركي، استضافت الخارجية التركية اجتماعًا رفيع المستوى ضم وزيري الخارجية والدفاع، رئيس الأركان، ورئيس الاستخبارات، للتباحث في التطورات. وقد حمل الاجتماع رسائل طمأنة للداخل، وتحذيرًا من أن تركيا ليست بعيدة عن تداعيات الأزمة.
وفي بيانه عقب الاجتماع، ربط فيدان الهجمات الإسرائيلية بما يجري في غزة ولبنان وسوريا، مؤكدًا أن الحل الوحيد هو المسار الدبلوماسي، وأن المفاوضات النووية هي السبيل لتفادي التصعيد.
وفي هذا السياق، جاءت تصريحات رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي لتؤكد أن الهجوم الإسرائيلي “رسالة خبيثة” تستهدف تركيا، محذرًا من تجاهل هذا التهديد. وكان قد صرّح سابقًا أن الهدف ليس بيروت فقط، بل أنقرة، والغاية النهائية هي الأناضول.
الرئيس أردوغان نفسه سبق أن ربط المقاومة الفلسطينية في غزة بالدفاع عن تركيا، مشيرًا إلى أن صمود حماس يعكس أيضًا مواجهة المشروع الإسرائيلي المتوسع.
مواجهة الأزمة
تركيا تواجه احتمال انجرارها إلى صراع إقليمي، إما من خلال تصعيد في سوريا أو من خلال محاولة السيطرة على دمشق. ومن هنا، من المتوقع أن تبني أنقرة سياستها وفقًا لمحددات أبرزها:
- منع إسرائيل من تحقيق نصر حاسم قد يدفعها نحو مزيد من التصعيد في المنطقة.
- الحيلولة دون انهيار النظام الإيراني، لما له من تبعات أمنية خطيرة، تشبه ما جرى عقب سقوط نظام صدام حسين.
- الحفاظ على علاقات مستقرة مع واشنطن، ومحاولة تهدئة التصعيد عبر الحوار بين طهران والبيت الأبيض.
- تعزيز النظام الأمني الإقليمي، بدعم شراكات مع دول مثل سوريا والأردن، والسعي لضم دول مؤثرة كـ مصر، انطلاقًا من قناعة بأن المواجهة الفردية لم تعد مجدية.
الفرص التركية
رغم المخاطر، قد تحمل التطورات مكاسب لأنقرة، خصوصًا في ملفين:
- تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK): المعروف بصلاته مع الحرس الثوري الإيراني. تراجع دعم طهران قد يسرّع تفكيك هذه الشبكة، خاصة في العراق وسوريا.
- مشروع ممر زنغزور: الذي يربط تركيا بأذربيجان، لطالما عارضته إيران. وإذا تراجعت طهران، فقد تعيد تركيا طرح هذا المشروع لتعزيز وصلها بالقوقاز.
الخلاصة
أنقرة تتحضّر منذ فترة لاحتمال اندلاع مواجهة إقليمية، وقد بدأت فعليًا بتسريع الصناعات الدفاعية، وتهيئة الرأي العام، لكنها في الوقت نفسه لا ترغب بأن تصل الأمور إلى تلك النقطة في هذه المرحلة الحساسة.
سمير العركي – كاتب وباحث في الشؤون التركية