شهدت الأشهر الماضية عودة آلاف العائلات العراقية المقيمة في تركيا إلى الوطن، بسبب الظروف السائدة التي جعلت بقاءها في البلد المجاور للعراق أمراً صعباً. لكن هذه العائلات اصطدمت بمشاكل جديدة تتعلق بصعوبة التأقلم مع واقعها الجديد في بلدها، واختلاف أسلوب الحياة، ومواجهة النقص في الخدمات.
وعموماً تعددت الأسباب التي دفعت هذه العائلات إلى العودة إلى العراق بعدما أقامت سنوات طويلة في تركيا، وتأقلمت مع أسلوب العيش فيها، وأبرزها صعوبة تجديد الإقامات، وارتفاع تكاليف المعيشة.
يقول محمود الدرمك، وهو مدير إحدى الشركات العقارية والسياحية في إسطنبول، لـ”العربي الجديد”: “غالبية العراقيين المقيمين في تركيا كانوا يعتمدون على الإقامة السياحية التي تتطلب تجديداً سنوياً مرفقاً بأسباب الطلب، علماً أن عدد الأجانب الذين حصلوا على هذا النوع من الإقامة تجاوز 900 ألف، بينهم أكثر من 130 ألف عراقي حتى عام 2023. وقد شددت السلطات التركية إجراءات منح الإقامة في الأشهر الأخيرة، ما دفع عدداً كبيراً من العائلات العراقية إلى مغادرة البلاد”.
ويلفت إلى أن “العراقيين يستثمرون في عدة قطاعات، أبرزها العقارات والسياحة والتجارة، وقد شهد قطاع العقارات تراجعاً كبيراً خلال العامين الماضيين، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، ما انعكس سلباً على الاستثمارات العراقية في تركيا، وهذا من بين دوافع مغادرة العراقيين تركيا”.
وتواجه عائلات عدة أوضاعاً جديدة في العراق، وصعوبة تأقلم أفرادها مع واقع بلدهم، خصوصاً الشباب والمراهقين والأطفال الذين وُلدوا أو نشأوا في تركيا، لأن الفارق الكبير في الوضع الخدماتي بين البلدين.
فعلياً يعاني العراق من أزمة خدماتية متفاقمة منذ نحو عقدين من الزمن، ترتبط بضعف البنى التحتية، وتردي الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم والبيئة والترفيه. وتتحدث نارين رباح لـ”العربي الجديد” عن أن “الفارق كبير في مستوى الخدمات، والأوضاع السيئة للبنى التحتية وجودة التعليم والرعاية الصحية شكلت صدمة بالنسبة لي”.
يعاني العراق من أزمة خدماتية متفاقمة منذ نحو عقدين من الزمن
وتتابع: “توجهت عائلتي إلى تركيا عام 2011، حين كنت في سن صغيرة، ولم أزر العراق إلا مرات قليلة ولأيام محدودة، ثم عدت قبل أكثر من خمسة أشهر إلى مسقط رأسي في محافظة ديالى، ووجدت أن الفارق كبير في أسلوب العيش. كان الصيف الأخير لاهباً، وكان الحصول على جو لطيف داخل البيت أمراً غير سهل، بسبب الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي. أيضاً هناك تلوث كبير في الجو، ولا توجد مرافق ترفيهية تمنح أفراد العائلة فرصة الاستمتاع بأوقاتهم، وأعتقد بأنني سأعاني لوقت طويل كي أتأقلم مع وضعي الجديد”.
وتؤثر البيئة الاجتماعية في واقع الأطفال الذين يواجهون تحديات للتأقلم مع البيئة الجديدة، وانخرط العديد ممن نشأوا في تركيا في نظام تعليمي مختلف، ما جعل تأقلمهم مع المدارس العراقية أمراً مرهقاً.
ويخبر ناظم العيساوي “العربي الجديد” بأن ابنته البالغة 11 عاماً وولده (9 أعوام) يجدان صعوبة في التأقلم بالمدارس الحكومية، بسبب نظامها التعليمي المتهالك، وخلو المنشآت من الخدمات الصحية الملائمة، لذا اضطررت إلى نقلهما إلى مدرسة خاصة تعتني بنظافة المكان رغم أن تكاليفها باهظة”.
يتابع: “كنا نحصل في تركيا على خدمات جيدة ومستوى تعليم أفضل لأولادنا، وذلك في مدارس حكومية مجانية تتوافر فيها أفضل الخدمات البيئية والصحية، أما في العراق فندفع الكثير من المال للحصول على خدمات متوسطة وغير جيدة”.
عموماً لا يصعب أن يتكيف أرباب الأسر مع الوضع الحالي في العراق، لا سيما أنهم عاشوا سنوات طويلة من حياتهم، وسط صراعات مختلفة، شملت الحروب والأوضاع الاقتصادية والأمنية شديدة الصعوبة، لكن أبناءهم وبناتهم لم يعيشوا هذه الظروف، خصوصاً أن بعضهم وُلدوا وتربوا في تركيا، أو ترعرعوا وكبروا فيها، واعتادوا على بيئة مجتمعية وخدماتية معينة لا تتوفر في بلدهم الأم الذي عادوا إليه.
ويقول عمر عبد الحميد لـ”العربي الجديد”: “غادرت تركيا حين كنت في سن السابعة عام 2012، برفقة والدي وأخي الذي يصغرني بعام واحد، ثم عدت مع أسرتي إلى العراق في يونيو/ حزيران الماضي، وأجد مع شقيقي صعوبة في التأقلم مع الواقع الجديد. ندرس الآن في جامعة خاصة، ونحاول أن نتكيّف مع وضعنا الجديد، وقد اكتشفنا اختلافات كثيرة بين زملائنا الأتراك والعراقيين”.
ويوضح أن “هناك اهتماماً أكبر بالطوائف والقبلية يصل إلى درجة التعصب والعنف في العراق، بخلاف ثقافة الشبان في تركيا الذين يتأقلمون مع جميع التوجهات والانتماءات، وهذا ما اعتدت عليه مع شقيقي”.
أيضاً عادت أم سيف مع زوجها وأطفالها الأربعة إلى العراق، بعد أكثر من 12 عاماً من العيش في مدينة طرابزون التركية، التي تتميز بالجمال والطبيعة الساحرة، وقد وجدت أن التأقلم مع الأوضاع الجديدة يشكل تحدياً حقيقياً، خصوصاً بالنسبة إلى أبنائها الذين تتراوح أعمارهم بين 10 سنوات و16 سنة.
وتقول لـ”العربي الجديد”: “بالنسبة لي ولزوجي ليس التأقلم صعباً لأننا في بلدنا حيث وُلدنا وتربينا، ونعرف كيف نتكيف مع الظروف السائدة، لكن الوضع مزعج جداً بالنسبة إلى أطفالنا الذين اعتادوا على العيش في بيئة نظيفة تتوفر فيها الخدمات”.
وتشير إلى أن التلوث في العاصمة بغداد، المصنفة من أكثر مدن العالم تلوثاً، يجعل حياتهم اليومية مرهقة، وتقول: “أصيب أطفالي بأمراض جلدية بسبب تلوث الهواء والمياه، ويعانون من العواصف الترابية التي أصبحت أكثر تكراراً. أيضاً يجعل انقطاع الكهرباء المستمر الدراسة والترفيه وحتى النوم أموراً صعبة عليهم”.
ورغم أنها حاولت دمج أطفالها في الحياة الجديدة، لا تزال أم سيف تشعر بحجم الفجوة بين ما اعتادت عليه عائلتها وما تواجهه حالياً، وتقول: “نريد أن نعمّق شعور الانتماء للوطن لدى أبنائنا، لكن كيف يمكن إقناعهم بذلك في ظل هذه الظروف؟ نحاول لكن الأمر غير سهل”.