كيف تحول مراهق يعمل في ماكدونالدز إلى ثاني أغنى رجل في العالم؟
في أحد الصباحات المعتادة لعام 1994، دلف الموظف الثلاثيني إلى مكتبه الأنيق في إحدى الشركات الاستثمارية التابعة لوول ستريت، وألقى سترته على مقعد قريب، ليبدأ روتينه الصباحي بتناول بعض القهوة وقراءة الصحف، قبل أن ينخرط في صخب العمل الذي لا يتوقف إلا بحلول موعد الانصراف في المساء.
لفت انتباهه في ذلك الصباح خبر مدهش يقول عنوانه إن شبكة الإنترنت تحقق نموا سنويا في أعداد المستخدمين يصل إلى 2300%. في ذلك الوقت، كانت الشبكة العنكبوتية لا تزال وليدة وتخطو خطواتها الأولى، إلا أن رقم نموها كان مذهلا بالنسبة إليه، وهو الشخص الذي يتعامل بالأساس يوميا مع الأرقام والاستثمارات بحكم وظيفته.
لم يكن خبر كهذا ليمر مرور الكرام على الشاب الثلاثيني المُخضرم في عالم الاستثمارات، دون أن يستنتج بسرعة أن وراء هذا الرقم موجات هائلة من الفرص القادمة في الأفق ترتبط بشكل كامل بشبكة الإنترنت، وأن هذه الفرص يجب أن يتم استغلالها بأفضل شكل ممكن، وفي أسرع وقت ممكن أيضا(1).
نمو خرافي
درس الشاب مجموعة من الفرص التي يمكن استغلالها بناءً على النمو السريع للشبكة، فكتب لائحة من 20 منتجا محتملا يمكن أن يبيعه عبر الإنترنت، ثم وقع اختياره على بيع الكتب بالتحديد. لم يكن هذا الاختيار بسبب أنه مهووس بالقراءة بشكل خاص، بل لأن بيع الكتب عبر الإنترنت هو أفضل طريقة لتدشين متجره الإلكتروني الوليد؛ بسبب سهولة البيع والتسليم السريع، ونادرا ما توجد به مشكلات إرجاع أو مشكلات لوجستية أو تسعيرية كبيرة، مقارنة بمنتجات أخرى مثل الملابس والأجهزة.
خلال أيام، فوجئ الجميع بالشاب يقدّم استقالته من وظيفته المريحة في منتصف العام قبل حتى أن يحصل على مكافأته السنوية، ويقترض من والديه وأصدقائه مبلغ 300 ألف دولار، ويستأجر هو وزوجته مرأبا صغيرا يضع فيه كل ما يحتاجه لبدء مشروعه. اعتبره الجميع أصيب بلوثة جنون جعلته يتخلّى عن كل الامتيازات الوظيفية التي يملكها، ويغامر بحياته الشخصية، ويتخذ هذه الخطوة الغريبة التي تبدو خارجة تماما عن التفكير المنطقي المعهود عنه.
بعد سنوات قليلة من هذه الخطوة التي اعتبرها الجميع انتحارية، وبقدوم العام 1997، طُرحت أسهم المتجر الإلكتروني الجديد في أسواق الأسهم، وأصبحت ثروة هذا الشاب تتخطى المليار دولار، أي أنه نال لقب بليونير -وليس مجرد مليونير- خلال أربع سنوات فقط من بداية مغامرته.
وبعد سنوات كثيرة من هذه الخطوة التي اعتبرها الجميع انتحارية، وبقدوم عام 2021، أصبح هذا الشخص من أغنى أغنياء الأرض على الإطلاق بثروة تزيد عن الـ200 مليار دولار، وأصبح هذا المتجر البسيط لبيع الكتب عبر الإنترنت هو أكبر متجر إلكتروني حول العالم لبيع جميع المنتجات.
حسنا، ربما تأخرنا قليلا في إخبارك باسم الشاب الذي نتحدث عنه وكذا اسم شركته، لكن لا بد أنك عرفت الأمر بالفعل من العنوان والسياق. كانت هذه هي قصة بداية جيف بيزوس، مؤسس شركة أمازون التي يعرفها الجميع اليوم(1).
ستار تريك وشوّاية ماكدونالدز
كانت أمه “جاكي” ما زالت مُراهقة صغيرة لم تبلغ السادسة عشرة من عمرها عندما أنجبته في منتصف الستينيات لأب كان يعمل مؤديا لعروض السيرك، ثم لم تلبث أن تزوجت مهاجرا كوبيا اسمه “ميغول بيزوس” تبنّى طفلها الوليد واعتبره ابنه. في الواقع، لم يعرف جيف أن ميغول ليس هو أباه الحقيقي حتى بلغ العاشرة من العمر.
خلال سنوات طفولته ومراهقته، بدا واضحا أن “جيف” صبي لامع، لديه انجذاب خاص لأفلام “ستار تريك (Star Trek)” الفضائية الشهيرة. هذا الهوس كان سببا أساسيا في تشكيل جزء عميق من شخصيته دفعه لاحقا إلى إطلاق شركته الجوية الفضائية العملاقة “بلو أوريجن (Blue Origin)”، بل إن هذا الهوس دفع البعض إلى اعتبار أن هيئة بيزوس الحالية -الرأس الأصلع والنحافة الشديدة- هي محاولة منه للتشبّه بالكابتن “جون لوك بيكارد”، قائد السفينة الفضائية في سلسلة ستار تريك.
عندما بلغ بيزوس سن المراهقة، بدأ أول عمل له على الإطلاق في أحد مطاعم ماكدونالدز في ولاية تكساس وهو في عمر السادسة عشرة، حيث كان عمله الوقوف على الشوّاية الأساسية في المطعم، بعد أن رفض مدير الفرع أن يمنحه فرصة للتعامل مع العملاء. كان يقضي يومه بالكامل في الجزء الخلفي من المطبخ لمراقبة شوّاية طهي البرجر عن كثب، ثم يلتقطه وينقله إلى خط إنتاج الشطائر(2).
في تلك الفترة، عمل بيزوس أيضا في تنظيم بعض المعسكرات الصيفية للأطفال التي كان يحصد من ورائها بعض المال الجيد الذي يعينه على الدراسة. لاحقا التحق الشاب بجامعة برينستون العريقة، ليتخصص أولا في مجال الفيزياء الذي كان متيّما به كجزء من شغفه بالفضاء عموما، إلا أنه لم يلبث أن حوّل تخصصه إلى مجال علوم الكمبيوتر “Computer Science”، وليُظهِر مستوى دراسيا استثنائيا، مخالفا التصورات المعتادة عن رواد الأعمال الكبار الذين لا يكملون تعليمهم عادة في تلك المرحلة.
ماذا كان يفعل بيزوس في عشريناته؟
بعد تخرّج بيزوس من الجامعة، عُرض على بيزوس شغل وظائف في عدة شركات مميزة، أهمها شركة “إنتل (Intel)” و”بِل لابس (Bell Labs)” و”شركة أندرسون كونسالتينغ (Anderson Consulting)”. ومع ذلك، رفض الشاب حديث التخرّج جميع هذه العروض، واختار العمل في وظيفة في شركة صغيرة ناشئة متخصصة في الاتصالات تُدعى “فايتل (Fitel)”.
قضى بيزوس عامين فقط في الشركة، ترقّى فيها سريعا ليصل إلى منصب مدير خدمة العملاء، إلا أن الشركة الناشئة لم تصمد، وفشلت في النهاية. وعلى الرغم من ذلك، استطاع بيزوس في تلك الفترة أن يتعلم الكثير من مبادئ الأعمال، خصوصا في مراحل بدايات إطلاق الشركات الناشئة، وهو ما أفاده كثيرا في ثلاثينياته دون شك.
لاحقا، حصل بيزوس على وظيفة أخرى في مصرف “بانكرز ترست (Bankers Trust)” الذي استحوذ عليه لاحقا دويتش بانك. استطاع بيزوس في زمن قياسي أن يصل إلى منصب نائب مدير البنك وهو لم يتم السادسة والعشرين من عمره، ومع ذلك، فإنه شعر بالملل في هذه الوظيفة، وقرر أن يتحوّل إلى القطاع التقني والاستثماري.
شغل بيزوس -الذي أصبحت لديه سيرة ذاتية مميزة- وظيفة أخرى في مجموعة “D. E. Shaw group” لإدارة الاستثمارات، إحدى مؤسسات وول ستريت، واستطاع خلال أربع سنوات أن يكون واحدا من نواب رئيس مجلس إدارتها. خلال عمله في هذه المؤسسة، أُُوكلت إليه مهمة عمل بحوث استطلاعية حول أهم فرص الأعمال في القطاعات سريعة النمو، ومن بينها شبكة الإنترنت.
هذه المهمة جعلته في حالة اطّلاع دائم على عالم الفرص الجديدة، واستطاع من خلالها أن يرصد النمو الهائل في شبكة الإنترنت، وكانت هذه هي بداية شرارة اهتمامه شخصيا بأن يطلق مشروعه الخاص. والغريب أن بيزوس حاول إقناع المجموعة المصرفية التي يعمل لديها في تمويل فكرة مشروعه لبيع الكتب، إلا أن المجموعة لم تتحمّس لهذه الفكرة، فقرر هو وقتئذ أن يتخلى عن وظيفته، ويبدأ عمل هذا المشروع بنفسه(1، 3).
قفزة إلى المجهول حقا؟
في تلك الفترة، العام 1994، كان قد مضى عام على زواج بيزوس بـ”ماكنزي توتيل” التي أصبحت طليقته الحالية، وكان يشغل منصبا إداريا ممتازا يوفر له دخلا جالبا للحسد بالمعايير الأميركية. لذلك، كان السؤال الذي ما زال يُطرح دائما على بيزوس في أي حدث يحضره ويتحدث عن رحلته: كيف يمكن لشخص لديه أسرة ولديه هذه الامتيازات الوظيفية أن يمتلك الجرأة لتقديم استقالته وبدء مشروعه من الصفر؟
إجابة بيزوس عن هذا السؤال تكون من خلال ما يصفه دائما بأنه واحد من أهم الأساليب التي يطبقها عادة عندما يكون بصدد قرارات كبرى في حياته، هذا الأسلوب أسماه “منهج تقليل الندم (Regret Minimization Framework)”، ويزعم بيزوس أنه اعتمد عليه طويلا أثناء اتخاذ القرارات الكبيرة في حياته.
يقوم بيزوس بخلق حالة ذهنية افتراضية في خياله بأنه، وهو في الثلاثينيات من عمره، قد قفز قفزة زمنية كبيرة إلى المستقبل حتى وصل إلى عمر الثمانين، وتخيل أنه يجلس في مقعد مريح في منزله الخيالي المستقبلي ويفكر في الماضي، ويتذكر الأمور التي ندم على فِعلها أو ندم على عدم فِعلها.
بالتعمق في هذه الحالة الذهنية التي يتجرّد فيها من كل روابط الحاضر وتعقيداته وظروفه اليومية، تأكد بيزوس أنه إذا وصل إلى عمر الثمانين فإنه حتما سيشعر بالندم الشديد من أنه لم ينفّذ فكرته -الاستقالة من الوظيفة وبدء أمازون- مهما كانت نتائجها، وأنه لم يكن ليشعر بأي ندم إذا فشلت هذه الفكرة(4).
“علمت أنني إذا وصلت لعمر الثمانين، لم أكن لأشعر بالندم أبدا على قراري بمغادرة شركتي في منتصف العام قبل حتى أن أحصل على مكافأتي السنوية. كان هذا أمرا صغيرا جدا لأقلق بشأنه عندما أصل للثمانين وأتذكره. وفي الوقت نفسه، أدركت أنني سوف أشعر بندم حقيقي لعدم مشاركتي في هذا الشيء المذهل متنامي السرعة الذي يسمى الإنترنت. عندما فكّرت في الأمر بهذه الطريقة، كان سهلا جدا بالنسبة إليّ اتخاذ القرار”.
ما بعد أمازون
عندما دخل بيزوس عالم المليارديرات لأول مرة بعد طرح أمازون للاكتتاب العام في العام 1997، لم تكن تلك نهاية الرحلة، بل بدايتها. ففي عام 1998، كان جيف بيزوس واحدا من المستثمرين الأوائل في شركة “غوغل (Google)” التي كانت وليدة حينذاك، واستثمر فيها 250 ألف دولار. بقدوم العام 2004، كانت حصته من شركة جوجل تساوي 3.3 مليون دولار. وعلى الرغم من أن بيزوس لم يعلن عن احتفاظه بأي أسهم في غوغل الآن، فإن استثماره الأوّلي فيها بهذا المبلغ يعادل حوالي 3 مليارات دولار الآن(5).
في عام 2000، بدأ بيزوس مشروعه الكبير الثاني بعد أمازون، وهو شركة “بلو أوريجن” للصناعات الفضائية الجوية، حلمه القديم الذي عاد للواجهة مرة أخرى بعد امتلاكه هذه الثروة الهائلة. حققت الشركة على مدار عقدين العديد من الإنجازات الكبيرة في مشوار غزو الفضاء، آخرها كان صعود بيزوس نفسه في يوليو/تموز 2021 إلى حافة الغلاف الجوي في رحلة سياحية استمرت 11 دقيقة عبر أحد الصواريخ التي تطوّرها شركته.
ومع انشغال بيزوس في تطوير وإدارة كل من أمازون وبلو أوريجن على مدار العقد الأول من الألفية، فإنه انتظر حتى عام 2013 ليعلن شراء واحدة من أهم الصحف الأميركية على الإطلاق، وهي صحيفة “ذا واشنطن بوست (The Washington Post)” بقيمة 250 مليون دولار دفعها نقدا. كما بدأ بيزوس في تنشيط استثماراته في الشركات الناشئة حول العالم، حيث استثمر في عدد من الشركات في القطاع الصحي، مثل شركة “Unit Biotechnology” لإطالة العمر ومواجهة الشيخوخة، وشركة “Grail”، و”Zocdoc”، وغيرها(1).
أغنى رجل في العالم
في العام 2017، أصبح جيف بيزوس للمرة الأولى صاحب لقب أغنى رجل في العالم بإجمالي ثروة قدّرت وقتئذ بـ 90 مليار دولار، متجاوزا مؤسس مايكروسوفت “بيل غيتس” الذي احتل هذا اللقب عقودا طويلة. كان هذا هو العام نفسه الذي استحوذت فيه شركة أمازون على متاجر “Whole Foods” الأميركية العملاقة بصفقة ضخمة قدرت بـ13.7 مليار دولار، واعتبر من أضخم صفقات شركة أمازون على الإطلاق.
وعلى الرغم من انتزاع طليقته “ماكينزي” -التي كانت زوجته لـ 25 عاما- لحصة كبيرة من نصيب بيزوس في أمازون قدرت بـ25% من ملكية الشركة، أي ما يوازي 36 مليار دولار، وذلك لتسوية إجراءات الطلاق الذي أعلنا عنه في العام 2019، إلا أن بيزوس استمر على عرش أغنى رجل في العالم آنذاك بثروة تقدر بـ 130 مليار دولار. وفي المقابل، أصبحت ماكينزي ثالث أغنى امرأة في العالم بعد إتمام إجراءات الطلاق(6).
بنهاية العام 2020، عام انتشار جائحة كورونا، وزيادة النشاط الهائل لأمازون مع الاعتماد العالمي على الشراء عبر الإنترنت، قفزت ثروة بيزوس إلى 200 مليار دولار، ليصبح أغنى رجل في العالم وأول شخص يصل إلى هذه الثروة في التاريخ. لاحقا، في الربع الأخير من العام 2021، استطاع منافسه التقليدي “إيلون ماسك” إزاحته عن عرش أغنى أغنياء العالم عندما وصلت ثروة ماسك إلى 300 مليار دولار بفضل ارتفاع سهم شركة تيسلا للسيارات الكهربائية إلى رقم قياسي.
في النهاية، وبعد 27 عاما من تأسيس أمازون في مرأب أحد المنازل، أعلن جيف بيزوس تنازله عن منصب المدير التنفيذي لشركته لمساعِده “آندي جاسي” وهو في عمر السابعة والخمسين، مع احتفاظه بأدوار رئيسية لإدارة الشركة. هذا التنازل لم يكن لغرض التقاعد، وإنما للتركيز بشكل أكبر على تطوير المزيد من المشاريع، خصوصا شركته الجوية الفضائية “بلو أوريجن”، والتوسع في الاستثمارات في الشركات الناشئة حول العالم.
اليوم يعمل في أمازون ما لا يقل عن 500 ألف موظف، وتتجاوز قيمتها السوقية 1.7 تريليون دولار، بعد أن كانت يوما ما عبارة عن عشرة موظفين فقط. يقول بيزوس في أحد اجتماعاته الجماهيرية بموظفيه في شركة أمازون متذكرا هذه الأيام(7):
“أعتقد أنه من الصعب عليكم أن تتذكروا هذا يا رفاق، ولكن بالنسبة إليّ فأنا أتذكر كأنه البارحة، عندما كنت أحمل الحقائب بنفسي لأوصّلها إلى مكتب البريد، وأنا أحلم باليوم الذي يكون لدينا عربات نقل البضائع الخاصة بنا”.
___________________________________________________
المصادر:
- Here’s how he built Amazon into a $1.7 trillion company and became the world’s richest person.
- Jeff Bezos worked at McDonald’s when he was 16 — here’s what he learned
- Jeff Bezos hasn’t always had the golden touch: Here’s what the Amazon founder was doing in his 20s
- كيف تجني 200 مليار دولار؟.. دروس من تجربة جيف بيزوس
- The Story of Jeff Bezos’ $250,000 Investment into Google in 1998
- After finalizing divorce details, Jeff Bezos remains richer than everyone else on Earth
- Jeff Bezos says all his best decisions involved intuition and gut, not analysis
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.