هل تنجح تركيا هذه المرة في إنهاء “المسألة الكردية”؟
سعيد الحاج
كعادته، وكما في مرات سابقة، يبدو أن مرحلة جديدة في السياسة الداخلية التركية أتت إشارتها الأولى من رئيس الحركة القومية وزعيم التيار القومي في تركيا دولت بهتشلي. فالرجل الذي كان السبب في انتخابات 2002 التي أتت بالعدالة والتنمية وأردوغان لحكم البلاد، والذي دعا لإقرار النظام الرئاسي بعد الانقلاب الفاشل في 2016، والذي دعا لتبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2018، قدم مؤخرا إشارات بالغة الأهمية بخصوص الملف الأكثر حساسية وخطورة في البلاد وهو الملف الكردي.
ففي الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، وتحت قبة البرلمان، صافح الرجل المعروف بمواقفه المتشددة من الأحزاب “الكردية” في تركيا أعضاء حزب مساواة وديمقراطية الشعوب (الاسم الجديد لحزب الشعوب الديمقراطي). ثم أطلق في الـ22 منه نداء للحزب الأخير ليمنح زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل عبد الله أوجلان فرصة الحديث أمام كتلته البرلمانية “لإعلان وقف الإرهاب وإلغاء المنظمة الإرهابية”.
تنبع أهمية النداء المذكور من ثلاث زوايا: أنه أتى من الرجل الأكثر تشددا فيما يتعلق بالمسألة الكردية في البلاد، وأنه حليف الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ومن توقيته المتزامن مع تغيرات إقليمية بعضها بدأ وبعضها الآخر متوقع و/أو محتمل. وبحصيلة العوامل الثلاثة، ومضمون الكلام الذي أشار لاحتمال رفع “العزل” عن أوجلان،
تنبع أهمية النداء المذكور من ثلاث زوايا: أنه أتى من الرجل الأكثر تشددا فيما يتعلق بالمسألة الكردية في البلاد، وأنه حليف الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ومن توقيته المتزامن مع تغيرات إقليمية بعضها بدأ وبعضها الآخر متوقع و/أو محتمل
كان من الطبيعي أن يقرأ الكثيرون إمكانية مسار حل جديد في “الملف الكردي” أو “المسألة الكردية” أو “القضية الكردية” أو “المشكلة الكردية”، باختلاف التسميات وفقا لاختلاف الأطراف وزوايا التناول والنظر.
هذا الانطباع الأولي تعزز مع تصريحات الرئيس التركي الداعمة لنداء بهتشلي، بل والشاكرة لموقفه هذا، حيث وصفه أردوغان بـ”القائد الذي يخط مسارات التاريخ”، متحدثا عن فرصة جديدة “لحل مشاكل البلاد المزمنة وفي مقدمتها الإرهاب”.
كما تعزز هذا الانطباع كذلك بالرسالة التي أرسلها أوجلان نفسه من معتقله، من خلال ابن أخيه النائب في حزب مساواة وديمقراطية الشعوب عمر أوجلان، الذي زاره في اليوم التالي لنداء بهتشلي، بأنه “يمتلك القوة لسحب هذا المسار من أرضية الصراع والعنف إلى أرضية قانونية وسياسية، إذا ما توفرت الشروط لذلك”. كما أعرب حزب مساواة وديمقراطية الشعوب، الذي يُنظر له في تركيا على نطاق واسع على أنه الواجهة السياسية للكردستاني، عن استعداده للاضطلاع بدوره في “تأسيس السلام”، رغم أنه اشترط لذلك إلغاء حالة العزل عن أوجلان كبداية لأي مسار، كما أكد حصول لقاء مع وزير العدل بخصوص هذه المسألة.
أعادت هذه التصريحات للأذهان “عملية التسوية” التي بدأت قبل سنوات بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني؛ بحيث يلقي الأخير سلاحه ويوقف عملياته مقابل صياغة دستور جديد يتضمن منح الحقوق الكاملة للمكوّن الكردي وفق مبدأ المواطنة المتساوية، بعد خطوات متتالية من حكومات العدالة والتنمية شملت إصلاحات ديمقراطية ومشاريع تنموية في مناطق الأغلبية الكردية. بيد أن هذا المسار انهار في 2015 وعاد الكردستاني للعمليات الإرهابية؛ لأسباب في مقدمتها عودة الأمل له بدولة كردية بعد التطورات في سوريا وإعلان الإدارة الذاتية في شمالها.
من يومها، يعلن العدالة والتنمية أنه لا عودة للمسار نفسه أي الحل التفاوضي مع العمال الكردستاني، بل الاستمرار في مكافحة الإرهاب، خصوصا وأن العامين 2015 و2016 شهدا حرب مدن في مناطق الأغلبية الكردية في شرق وجنوب شرق البلاد، بعد إعلان الإدارات الذاتية فيها. ولذلك، كان من المنطقي ألا تأتي الدعوة الأخيرة من الرئيس أردوغان، وإنما من حليفه بهتشلي، بحيث تعطي قوة ومصداقية أكبر وتحجّم -قدر الإمكان – ردات فعل التيار القومي في البلاد.
ورغم أن الحاجة بقيت قائمة لمسار سياسي بعد تقويض قدرات العمال الكردستاني وقدرته على شن العمليات ضد تركيا في إطار العمليات المتواصلة في الداخل والعراق وسوريا (والتي تقول الحكومة إنها حجّمته إلى حد بعيد)، إلا أن السياق الحالي مرتبط إلى حد بعيد بالتطورات الإقليمية وخصوصا الحرب “الإسرائيلية” على غزة والتي باتت تهدد المنطقة برمتها.
فمنذ بدء التهديدات “الإسرائيلية” للبنان هاجم أردوغان ما أسماه مطامع نتنياهو في المنطقة بعد غزة، ثم فصّل لاحقا في تصريحاته مشيرا إلى مخاطر تتهدد لبنان ثم سوريا بل وتركيا التي “يفصلهم عنها ساعتان ونصف فقط”. ويبدو أن ذلك تولّد عن قراءة لدى صانع القرار التركي دفعت لتصريح ذكّر بالتدخل التركي في كل من ليبيا وأذربيجان والتلويح بشيء مماثل ضد “إسرائيل”، وهو ما دفع وزير خارجية الاحتلال لتهديد أردوغان بمصير الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.
ترى أنقرة أنها مهددة في مسارين؛ الأول أي تطورات سلبية في سوريا قد تشمل فوضى عارمة أو تثبيت وجود المليشيات الانفصالية المدعومة أمريكيا، والثاني تعرضها لضغوط وعمليات إرهابية بسبب موقفها المهاجم للاحتلال، وهو ما حصل -وفق المسؤولين الأتراك- في الهجوم الإرهابي الأخير على إحدى شركات الصناعات الدفاعية.
فإضافة لاحتمال التحرك العسكري في شمال سوريا، ركّز أردوغان في تصريحاته على ما أسماه “تمتين الجبهة الداخلية”، ومضاعفة قوة تركيا عسكريا ولا سيما في مجال الصناعات الدفاعية. وبما أن الملف الكردي أكثر الملفات الداخلية حساسية كان هذا التوجه المتسارع، الذي يوحي بمسار قد بدأ منذ مدة. فهل تنجح أنقرة هذه المرة في إغلاق الملف الذي كلفها خلال 40 سنة أكثر من 30 ألف ضحية وما يقرب من 500 مليار دولار وفق بعض التقديرات؟
سيطرة أوجلان على العمال الكردستاني بكامل هيئاته وفروعه لم تعد كما كانت في السابق رغم زعامته التاريخية المسلّم بها،
لا شك أن عبد الله أوجلان يبقى شخصية محورية في العمال الكردستاني، وهو صاحب كاريزما وكلمة لدى الكثيرين، وهو ما أكدته التصريحات الصادرة عن حزب مساواة وديمقراطية الشعوب، وبالتالي فدعوته لإلقاء السلاح، إن حصلت، سيكون لها صدى لدى الكثيرين. لكن هل تكفي؟ وما هي العقبات الرئيسة أمام مسار كهذا؟
هناك خمس عقبات رئيسة أمام المسار المحتمل، تحتاج للعودة لها لاحقا بشيء من التفصيل، هي:
الأولى أن سيطرة أوجلان على العمال الكردستاني بكامل هيئاته وفروعه لم تعد كما كانت في السابق رغم زعامته التاريخية المسلّم بها، وسيكون سهلا على أي طرف لا يرغب في الحل أن يقول إنه معتقل ولا يملك كامل الأهلية والصلاحية لاتخاذ قرار استراتيجي من هذا النوع.
الثانية أن العمال الكردستاني ليس على قلب رجل واحد، بل فيه تيارات متنافسة ومراكز قوى، وواضح أن القيادة المتنفذة في معقله في جبال قنديل في العراق على وجه التحديد ضد أي مسار من هذا النوع.
الثالثة البعد الخارجي المرتبط بدعم واشنطن ونفوذها لدى المنظمات الانفصالية في شمال شرق سوريا من جهة، وتطورات التصعيد الإقليمي وما يمكن أن ينتج عنه من مسارات في سوريا من جهة أخرى، ما يُضعِف قدرة أوجلان (ومن معه) على توجيه المسار والسيطرة عليه “كرديا”.
الرابعة مدى مصداقية المسار المحتمل والثقة به بعد التجربة السابقة من جهة، وفي ظل تشكيك بعض الأطراف بنوايا أردوغان من قبيل أن هدفه الرئيس هو الحصول على دعم الحزب “الكردي” وشريحته الانتخابية لتعديل دستوري يضمن له الترشح مدة رئاسية جديدة والفوز بها. كما أن بيان حزب مساواة وديمقراطية الشعوب وضع نداء بهتشلي في إطار “وصول سياسات التحالف الحاكم في تركيا لطريق مسدود في الداخل والخارج”.
الخامسة، أن هذا المسار المحتمل يتضمن بالضرورة خطوات أقل ما يمكن أن توصف به بأنها جريئة من قبل الحكومة التركية، وهو أمر ستكون له ردات فعل وربما أثمان سياسية داخليا يشير لها أردوغان بين الحين والآخر. وفي مقدمة هذه الاستحقاقات المحتملة إلغاء حالة العزل عن أوجلان كبداية، ومسارات قانونية وسياسية وخطابية قد تصل في النهاية لمرحلة الحاجة لاتخاذ قرار بشأن أوجلان ومسلّحي الحزب، وهو أمر بالغ الحساسية في الداخل التركي.
في الخلاصة، ما زالت دعوة بهتشلي المدعومة من أردوغان في مرحلة اختبار النوايا، بيد أن بيان حزب مساواة وديمقراطية الشعوب وتصريح أوجلان يوحيان بالاستعداد لخوض مسار سياسي ما، ولكن مع اشتراطات قد تضع المسار برمته على المحك، ما يعني أن رد الحكومة على هذه الدعوات/الاشتراطات سيحدد ما إذا كان ثمة مسار قريب في هذا الإطار أم أنه سيؤجل مجددا لعدم نضوج الظروف.