مقالات و أراء

أن تكون مواطنا في تركيا ..

لا تستطيع أن تلج تركيا وتخرج دون أن يغمرك الاحساس بمدى التلاحم المجتمعي،ما يجعلك تسائل نفسك عن مفهوم المواطنة هنا، في بلد ذو  سيادة ،وعن مدى تفعيلها لارتباطها الوثيق بمفاهيم كثيرة من قبيل الدولة ،والديمقراطيّة و القانون، وهويّة الأفراد ،والأقلّيات، وحقوق الفرد، وما يتوجب عليه…مع ضرورة فهم طبيعة الروابط الجديدة التي تقوم بين الأفراد والجماعات التي تحتضنهم، والتي بدأت في التشكّل جرّاء موجات النزوح الاضطراري بسبب الحروب، وحركات اللّجوء السياسيّ المتواصلة.والهجرة المتصاعدة …دون أن نغفل تغيرات ا لروابط والعلاقات السببية بين السلطة السياسية،ومدى ملائمة  الوسائل للغايات…لعلنا نفقه كفاية معنى أن تكون مواطنا تركيا ..دون الحاجة إلى شفرات غراي  ولسون،أو سواه.!!..

المواطنة وروح الهوية:

عبر مفهوم المواطنة، وتمثلاته في الوعي العام، وأشكال تمظهراته في الأفكار والسلوكات، يمكن إدراك واقع الانتماء عند كل شعب من الشعوب.
المواطنة ليست كلمة للإستهلاك السياسي أو الاجتماعي.بل هي أكبر من ذلك.لأنها تيرمومتر نقيس به ومن خلاله درجة حرارة الانتماء إلى الوطن، بما هو تاريخ وجغرافية وتقاليد وهوية حضارية.
يمكن التأكيد أن المواطنة ليست هوسا إقليميا ضيقا أو شوفينيا.بل تأسيس لأشكال التماهي مع الوطن الذي نعيش فيه، ونعمل على النهوض بأوضاعه كافة.

2 – حس فاعل في المستقبل:

الأتراك شعب يزخر بقيم المواطنة في شكلها الشمولي الذي لا يقتصر فقط على (الحب السلبي) للوطن.بل يمتد عميقا إلى فهم واسع للمعطى الانتمائي.
علماء الاجتماع في الغرب يحددون مفهوم الانتماء في أبعاده الروحية التي تتخطى الجغرافية وتمتثل للتاريخ.بمعنى أن روح المواطنة تسكن الإنسان سواء كان داخل حدود بلده أو خارجها.
هذا ما يميز الشعب التركي.
لقد تبلور حس المواطنة في تركيا بعد تجارب عديدة خاضها المواطن التركي وهو يبني بلده ويؤسس لقواعد انطلاقه في هذا العالم.
هذه التجارب أكسبته (مناعة) ضد اقتراف كل ما يمكن أن يؤثر على رسوخ الوطن في دواخله.

3 – تنمية صورة المجال العام:

حين نتقصى سلوكيات الشعب التركي، ونربط بين حاضره وماضيه، تتبدى لنا تمظهرات تفعيل المواطنة وتكريسها في الحقائق التالية:
أولا:
الامتثال لشروط المجال العام، وتقاسم هذا المجال وفق روح المواطنة الحقة.
بمعنى أن المواطن التركي يخضع لقواعد السلوك في الشارع العام حفاظا على صورة بلده.
ثانيا:
تقديم النموذج الفردي العاكس للنموذج العام، فيما يخص تكريس صورة حقيقية للمواطن التركي في تعامله مع الآخر الزائر للبلد.
ثالثا:
إرساء شكل إيجابي في تنمية العلائق وتجذيرها، مما يؤكد انسجاما بين جموع الشعب، ويشي بصدور الأتراك عن روح واحدة تسودهم في الشارع العام.

4 – فكرة الوطن / فكرة المصير:

ليس يسيرا تنزيل قيم المواطنة وتفعيلها بشكل يحولها إلى سلوك متجذر في الوعي و  الممارسة.
في الوعي:
الأتراك لديهم إيمان راسخ بأهمية الانتماء الجوهري في بناء الإنسان والوطن معا.
هو وعي عام لا يتلعثم بل يتبدى فصيحا لكل من يزور تركيا ويتأمل ويكتشف ويقرأ المؤشرات.
هم لا يحتاجون إلى من يلفت انتباههم إلى سلوكيات تتناقض مع حس المواطنة.لأن الوعي بهذا الحس راسخ فيهم إلى حد بعيد.


في الممارسة:


يبرع الأتراك في بلورة انتمائهم على جميع الأصعدة، وخاصة على المستوى السياسي.بحيث يمكن التأكيد إن فكرة الوطن تعادل فكرة المصير.

5 – العقاب السياسي لكسب الانتماء:

في المعطى السياسي يتمثل المواطن التركي فكرة المواطنة ويجسدها على أرض الواقع.
يتم تفعيل حس الانتماء، الذي هو أساس المواطنة، من خلال السلوكات السياسية التالية:
أولا:
اختيار الفاعلين السياسيين لتدبير الشأن العام وفق قدرة كل منهم على السير بالوطن والمواطن قدما.
ثانيا:
الحكم على الأفعال وامتحانها في الواقع، للوصول إلى رأي سديد يحضر فيه مستقبل الوطن والشعب لا مستقبل الفرد وطموحه.
ثالثا:
استعمال (حق العقاب) ضد كل فاعل وعد وما وفى.وهو حق يمكن الدورة السياسية من كسب دينامية قوية.كما يمكن المواطن من ترجمة مواطنته.

6 – التعليم والقيم الوطنية:

منظومة التعليم في تركيا، عبر جل مقرراتها ومناهجها، تعتبر عاملا مؤسسا وهاما لتربية التركي على الانتماء لروح الوطن والتحلي بإحساس المواطنة.
التعليم في تركيا لا ينبني على الشحن والتلقين.بل يتأسس على زرع الملكات.ومن ضمنها ملكات الانتماء إلى الوطن والشعور بالعزة اتجاهه.
منذ التنشئة الأولى يتشرب التركي القيم الوطنية.ويكبر على حس الوطن.ينزرع فيه هذا الوعي ويظل بداخله يشكل حراسة على كل سلوك يقترفه.
وحين قال دوركايم:
“المدرسة هي الحاضن لقيم الإنسان”.
كان بالفعل يقرر حقيقة ساطعة تتجلى شواهدها في الواقع وفي الأفكار وفي الممارسات.

7 – خيار الفرد وخيار الوطن:

حين تتلبد سماء تركيا بأحداث جسام أو محن صعبة، تتبدى المواطنة أبهى ما تكون عند الشعب التركي.
هنا لا يصبح للفرد خيار آخر سوى خيار الوطن.
ويصبح الجمع بديلا عن المفرد.
كما تغدو الحقيقة، حقيقة الأمة، قاسما مشتركا يتسارع الكل إلى تكريسها بكل تجرد ونكران ذات.
هنا تحديدا تتجلى كل أشكال التنزيل البارع لحقائق المواطنة في أكبر وأهم شروطها ونتائجها.
أجل يتكاثف الأتراك ويلتفون حول العلم / الرمز التركي كلما اقتضى الأمر الانتصار للقيم المشتركة لوطن آمنوا به، وعمل كل واحد منهم على جعله في القلب.
الفاعلون السياسيون أنفسهم يتناسون، مع استثناءات نادرة، خلافاتهم السياسية المرحلية، ويرفعون شعار المواطنة الدائم والراسخ:
الوطن أولا.الوطن أخيرا.

8 – حس المواطنة فوق كل تعريف:

في أدبيات الأمم المتحدة، نجد تعريفا للمواطنة يؤكد أنها إحساس بحضور الوطن في النفس.
وأعتقد أن حس المواطنة يظل دوما فوق كل تعريف.لأنه حالة نفسية شعورية تنبع من الوجدان وتترسخ عبر مراحل العمر ومن خلال التجارب.
يبقى أن الشعب التركي يقدم للجميع نموذجا في حب الوطن وحس المسؤولية الوطنية.

أجل:
التركي يقوم بتفعيل روح مواطنته ليس لأنه مطالب بذلك.بل لأن ذلك قيمة راسخة في جبلته.

 

ناهد الزيدي –  خاص تركيا الآن

زر الذهاب إلى الأعلى