مقالات و أراء

استطلاعات الرأي الأخيرة وساعة الحسم التركية

فاجأ رئيس الجمهورية طيب أردوغان الجميع وخاصة شركات الاستطلاع عندما قال إنه لم يعد يثق بنتائج الاستطلاعات وأنها كلها غير صادقة، وهو المعروف عنه أنه من أكثر الشخصيات السياسية التي تجري استطلاعات للرأي بشكل دائم ويوليها أهمية خاصة ويقوم بتغيير الحملات الانتخابية والمواقف والشعارت بناء على توجهات الناخب واهتماته وأولوياته.

البعض اعتبر هذا الموقف المفاجئ مرتبطًا بنتائج  الحملة الانتخابية غير المرضية، والبعض اعتبره موقفًا وتعبيرًا عن ابتعاد بعض شركات الاستطلاع عن المهنية والانحياز لطرف معين وربما التخندق والاصطفاف ومحاولة التأثير بشكل مقصود على الناخب التركي.

لأول مرة تخوض تركيا انتخابات البلديات في ظل النظام الرئاسي والتحالفات الحزبية، الذي جعل الفوز في كثير من المدن يستلزم الحصول على أكثر من نصف أصوات الناخبين، مما قسم المجتمع إلى قسمين بين مؤيد ومعارض، وكأننا نصوت للحزب الحاكم أو للمعارضة. بدلًا من اختيار رئيس البلدية بناءً على برنامحه الانتخابي ومشاريعه والخدمات التي سيقوم بتقديمها…

كل استطلاعات الرأي تشير إلى أن الفوز في هذه الانتخابات سيكون بفارق نسبة ضئيلة لن تتجاوز نصف أو واحد بالمئة في كثير من المدن… وأننتيجة الفوز لن تحسم في كثير من المدن إلا بعد آخر صوت في الصندوق…

ومن هنا تأتي أهمية الأصوات في حسم النتيجة وأهمية المشاركة وأهمية المترددين والمقاطعين للانتخابات، حيث تشير الاستطلاعات إلى أن نسبة ليست بالقليلة لا تزال مترددة حتى الساعات الأخيرة، لم تقرر بعد، هل تشارك بالانتخابات أم تقاطعها.هذه النسبة كانت تقارب 20% من الناخبين في البداية، ورغم أنها تقلصت في الأيام الأخيرة لكنها لا تزال في حدود 10-15%…

وأكبر نسبة من هؤلاء المترددين والغاضبين هم بين مؤيدي العدالة والتنمية والحركة القومية، وعلى العكس من ذلك هي قليلة بالطرف الآخر حيث يبدو أن مؤيدي المعارضة مصرّون على كسب الجولة وعدم تضييع هذه الفرصة…

هذه الشريحة التي أرادت إيصال رسالة تنبيهية وامتعاض للحزب الحاكم في انتخابات 7 حزيران/ يونيو لعام 2015 أخطأت التقدير وأفقدت العدالة والتنمية قدرته على تشكيل الحكومة بمفرده في ذلك الوقت… مما أدخل تركيا في دوامة الفراغ الحكومي لعدة أشهر والعودة لانتخابات مبكرة من جديد…

وهذا أكبر تحدٍّ أمام العدالة والتنمية اليوم، الرئيس أردوغان أدرك هذه الحالة وهذه الانعطافة الحرجة، فطالب الممتعضين والمحتجين والغاضبين والمتذمرين بتأجيل هذه الحساسية والحسابات الصغيرة وإن كانوا محقين، ودعاهم للمشاركة ووعد بالإصلاح لاحقًا، وهو الذي كان يشير بشكل دائم إلى بعض الترهل والغرور والأخطاء في كوادر الحزب التي عمل على تغيير الكثير منها…

تشير الاستطلاعات إلى أن كثيرًا من المدن ستغير من رؤساء بلدياتها، وتنتقل من حزب لآخر، فقد يخسر العدالة والتنمية بعض المدن والمناطق، وقد يكسب بعض المدن لأول مرة في مدن في شرق وجنوب شرق تركيا مثل آغري وبيتليس وشرناق، وقد تنتقل بعض المدن له من الشعب الجمهوري مثل غيرسون وسينوب وزونكلداك…المفارقة في مدن جنوب شرق تركيا التي تم تعيين “قيّم” لإدارة بلدياتها بعد اعتقال رؤساء البلديات السابقين من حزب الشعوب الديمقراطية “الكردي” بتهمة الإرهاب. فالناخب يقدر الإنجازات والتغير الإيجابي الحاصل في عمل القيّمين، لكن عندما يأتي السؤال عن التصويت فإن الموقف الإيدولوجي هو الحاكم. يعني نقدر ونثمن خدماتكم لكن لا نصوت لكم…

فوز العدالة والتنمية في مثل هذه المناطق ليس سهلًا لكن في حال حصوله ستكون له دلالات كبيرة وكثيرة… على المستوى المحلي والعام بآن واحد…
ورغم تنازل العدالة والتنمية للحركة القومية في ولايتي أضنة ومرسين ودعم مرشحهم هناك، إلا أن الاستطلاعات تشير إلى حدة التنافس وأن الفوز لن يكون سهلًا خاصةً في مرسين وسيكون الحسم بيد أصوات الشعوب الديمقراطية التي قد تغير النتيجة لصالح المعارضة رغم تقدم مرشح الجمهور في أضنة بأريحية جيدة…

في هاتاي وأنطاليا ستظل النتيجة حتى فرز آخر صوت في الصندوق…

كثير من المدن في وسط الأناضول ثابتة في موقفها لصالح العدالة والتنمية مثل عنتاب ومرعش وقونية وتوكات وملاطية ويوزقات وطرابزون وغيرها كثير…
إزمير هي الأخرى ثابتة في موقفها السياسي في خانة الشعب الجمهوري رغم البرامج المغرية التي قدمها مرشح العدالة والتنمية هناك… فالتصويت سياسي عقائدي وليس محليًا…

رغم أن الانتخابات هذه هي انتخابات محلية لكن الاستقطاب الحاصل والتخندق وتحويل النقاش خاصة من قبل القادة السياسيين إلى نقاش سياسي وربطه ببقاء تركيا وأمنها القومي، وتعويل المعارضة على نتائج هذه الانتخابات لتبني عليها مطالب جديدة قد تبدأ بطرح الثقة وطلب انتخابات مبكرة وقد يصل الأمر لطلب استفتاء على النظام الرئاسي برمته، كل هذا جعل التركيز  على نتائج أنقرة وإسطنبول، وزاد من قيمتهما الموجودة أصلا كون الأولى هي العاصمة السياسية والثانية العاصمة التجارية والسياحية، ولا أبالغ إذا قلت بأن قياس الفوز والخسارة قد اختزل بنتائج هاتين العاصمتين، فخسارة العدالة والتنمية في إحداهما لن يعوضه الفوز في جُل المدن الأخرى، وعلى العكس من ذلك ففوز المعارضة بهما أو بأحداهما سيمنحها لذة الفوز وإن لم تكسب غيرها….

فكيف هي الصورة الأخيرة في هاتين العاصمتين..؟؟

بالنسبة لإسطنبول لم يكن ترشيح شخصية معروفة وقوية وناجحة، معتدلة وقريبة للجميع مثل بن علي يلدرم منذ البداية، إلا ادراكا مسبقا من قبل رئيس الجمهورية لقوة المنافسة وحدة الاصطفاف والتخندق، فلا مجال للمجازفة والمخاطرة هنا.

استطلاعات الرأي منذ البداية ولا تزال تشير لتقدم يلدرم على منافسه، لكن يبدو أن الفارق الذي كان كبيرًا بالبداية لم يعد بهذه النسبة ولا يدعو للطمأنينة والارتياح…

ستُرجّح الكفة في إسطنبول شريحتان لا ثالث لهما، الأولى هي شريحة المترددين والمتذمرين من مؤيدي العدالة والتنمية، والثانية شريحة الأكراد المحافظين المتدينين الذين كانوا يصوتون للعدالة والتنمية…

حيث يوجد بإسطنبول ما يقارب 22% من المواطنين الأكراد، نصفهم على الأقل يصوت لحزب الشعوب الديمقراطية و40% منهم تقريبا للعدالة والتنمية…
عدم مشاركة هاتين الشريحتين قد يأتي بمفاجآت كبيرة، رغم تقدم يلدرم ورغم أهمية ورمزية إسطنبول للعدالة والتنمية…

أما في أنقرة فرغم قوة مرشح العدالة والتنمية وحملته الدعائية وبرامجه العظيمة التي تحتاجها أنقرة، ورغم كونه شخصية ناجحة في إدارة بلدية قيصري وكونه وزيرًا سابقًا إلا أن استطلاعات الرأي ومنذ البداية كانت تشير لتقدم مرشح المعارضة “القومي سابقًا” منصور يواش، لكونه معروفًا في أنقرة وقد خاض الانتخابات مرتين أمام مليح غوكجك، كان مرشحا للحركة القومية في إحداهما.

استطاع أوزحسكي مرشح العدالة والتنمية تقليص الفارق بشكل سريع وأصبح ضئيلًا جدًا بينهما، وتقدم عليه في بعض الاستطلاعات، وأصبحت النسبة تتأرجح بفارق بسيط بين الاثنين حسب الاستطلاعات الأخيرة…

نزول مليح غوكجك للميدان لتأييد أوزحسكي، والعودة للثناء على إنجازات غوكجك من قبل العدالة والتنمية ربما كانت محاولة  لحشد القوميين وإدراكًا لخطورة الأمر…

من سيرجح الكفة في أنقرة هي أصوات القوميين ليس غيرهم…

فهل سيدعمون أوزحسكي مرشح الجمهور ويلتزمون بالاتفاق بين العدالة والتنمية أم ستغلب العاطفة لمرشح المعارضة القومي السابق.

فوز أوزحسكي سيعتبر فوزًا مميزا لرئيس الجمهورية ولقراراته واختياره… لكن الخسارة ستحمل معها أيضًا الكثير من المضاعفات والتساؤلات والمراجعات، وسيؤثر هذا بشكل مباشر على مستقبل تحالف الجمهور ومراجعة الفريقين له رغم أهميته وحاجة كل طرف للآخر… وربما يحمل تغيرات على الحياة السياسية كلها بتركيا…

أردوغان رجل السياسة ورجل الفوز بالانتخابات دائماً، ربما تكون هذه الانتخابات أكبر تحدٍّ له في حياته السياسية كلها…

ويبقى الحكم  هو الناخب.

والصندوق هو الأصدق أنباءً من الاستطلاعات والتحليلات والكتب في حده بين التخمين والجد واللعب.

مصطفى حامد أوغلو – ترك برس

زر الذهاب إلى الأعلى