مقالات و أراء

الانقلاب على السلطان عبد الحميد.. كيف أصبح سببا من أسباب الحرب العالمية الأولى؟

كان الانقلاب العسكري التركي على السلطان عبد الحميد أول الانقلابات العسكرية، التي شهدها العصر الحديث، وكان السبب الرئيس في نجاح هذا الانقلاب هو خوف السلطان عبد الحميد 1842-1918 من الله سبحانه وتعالى؛ إذ كان مع تقدم سنه في طاعة الله يخشى أن يلقاه بدماء بعض من المسلمين، الذين سيقتلهم النزاع مع أي منقلبين بالسلاح والغدر، ولم يكن هذا السلطان يدرك أن خوفه هذا سيقود إلى مذابح ومجازر يقوم بها هؤلاء، وهو الذي خاف الله فيهم؛ لكنهم لا يخافون الله، وأن هذه المذابح ستسفك من دماء المسلمين الأبرياء أكثر من 100 ضعف أرواح المنقلبين الأشقياء.

 

 

 

هل كان وأد المحاولة الانقلابية ممكنا

و الظاهر لنا من نصوص التاريخ أنه كان من المستطاع أن يتم وأد المحاولة الانقلابية، التي قامت بها جماعة من الضباط، الذين اعتنقوا من أجل تنفيذها فكرة براقة ذات وجوه متعددة من الاتحاد والترقي، والتتريك، والإصلاح السياسي، فهي بصياغتها المراوغة كانت ترضي الأتراك بالتتريك من ناحية، وترضي القوميين الآخرين ضمنا بالانتصار للقومية أيا كانت القومية، وترضي العلمانيين بالخروج من ذمة حاكم مسلم قوي، وترضي العسكريين بإعطائهم سطوة في أمور الدولة على نحو كانوا قد جربوه من قبل، واستمتعوا به في تمرد الانكشارية لفترة قصيرة.

 

 

الاضطراب أصاب التوازن الدولي بسبب حكم الاتحاديين

كانت نتيجة الانقلاب العسكري داخل الدولة العثمانية مخيبة للآمال على نحو لم يصل أحد إلى إدراك المدى، الذي وصلت إليه، أما خارج الدولة العثمانية، فإن هذا الانقلاب كان هو السبب الأكثر إسهاما في الاضطراب، الذي أصاب التوازن الدولي منذ ذلك الحين عبر حربين عالميتين وحرب باردة ونزاعات متكررة، كما أنه كان السبب المباشر في إشعال الحرب العالمية الأولى، وكل ما ترتب عليها من المآسي التي لم تكن الإنسانية قد شهدتها من قبل على المدى الممتد لعمر الكائن البشري على وجه الأرض.

 

وخارج تركيا مركز العثمانيين أدى تشجيع الأوروبيين لسياسات “نصف الاستقلال” إلى ازدهار نزعات ونزاعات قومية تدميرية على نحو ما حدث في الحرب العالمية الأولى، التي حدثت بتسارع كان متوقعا من مشاعر متناقضة على أطراف الصراع جعلت براميل البارود تنفجر، بسرعة وتعاقب واحدا وراء الآخر.

 

 

نموذج لتأجيج العداوة في بلاد الشام

لعلنا نبدأ بأحاديث خاطفة ومضيئة عن أثر هذا الانقلاب في الشام أو المنطقة السورية (الكبرى) المتاخمة لتركيا، حيث صال جمال باشا السفاح وجال بدكتاتورية (أعاد تجديد ذكراها في الخمسينيات والستينيات من القرن الـ20 الرئيس جمال المسمى على اسمه)، ووصل الأمر بجمال باشا السفاح أن أعدم الزعماء الوطنيين جماعيا بعد محاكمات عسكرية الطابع كررها كثيرون من العرب بعده في العراق وسوريا والسودان وكل الدول، التي ابتليت بوباء الانقلابات، التي تستحضر للسلطة شخصيات ضيقة الأفق (مهما كان الأمر في وطنيتها أو مثالياتها أو نواياها أو اضطراريتها أو ظرفها التاريخي).

 

المأساة التي خلقها حكم الاتحاديين في سوريا

إذا كان من قول واحد يلخص مأساة هذا الحكم العسكري في سوريا، والذي بلورته هذه الإعدامات المجرمة، فهو مطلع قصيدة بسيطة قالها فارس الخوري، الذي عاش حتى سنة 1962، حيث قال “الحظ قدمهم وأخرني”؛ أي إنه كان معرضا لما تعرض له رفاقه من الوطنيين من الإعدام، لولا أن أجله لم يكن قد حان بينما كان أجلهم قد أتى. وما من عائلة سورية أو لبنانية أو فلسطينية لها علاقة بالسياسة إلا كان لها نصيب في هذه الإعدامات، التي تُنسب حتى يومنا هذا إلى الدولة العثمانية أو العثمانيين أو الأتراك، ولا يُعنى أحد بنسبتها الحقيقية إلى الانقلابيين أو الانقلاب العسكري أو حاكم سوريا السفاح جمال باشا، الذي لقي مصرعه في النهاية على يد الأرمن، ومع أن جمال باشا لم يكن هو الشخص الأول في الانقلاب، وإنما كان طلعت باشا، فإن جمال باشا كان أكثر الثلاثة توحشا وإجراما ودكتاتورية وسوء مصير أيضا. ومن العجيب أن رفيقه في الانقلاب أنور باشا تاب، فرزق الشهادة، وهو يدافع عن وطنه.

 

 

مرحلة من فقدان التوازن

نأتي إلى ما يهم العالم أكثر مما يهمنا، وبالتحديد إلى ما يهم العالم من شأن أوروبا لا من شأننا نحن العرب، فقد جاء هذا الانقلاب بعد فترة طويلة من الاتزان الدولي في القرن الـ18، وهو التوازن الذي حافظت عليه في الدرجة الأولى حكومة الملكة فيكتوريا في بريطانيا طيلة 64 عاما بين 1837 وحتى وفاتها 1901، وهي أطول فترة للملكية في بريطانيا حتى وقتها (وقد تخطتها الملكة إليزابيث الثانية فقط في 2006)، وكانت هذه السياسة كفيلة بضبط موازين القوى بين ثنائية الروس والعثمانيين، وكذلك بين ثنائية العثمانيين والنمساويين، وبين ثنائية الروس والنمساويين، وبين ألمانيا وكل من هذه الثنائيات الثلاث.

وفي الوقت الذي كانت فيه بريطانيا بحكم سيادتها على البحار قادرة على ضبط هذه المعادلات والتوازنات، فإن فرنسا التي كانت ما تزال تعاني الاضطرابات، التي خلقها نابليون في العلاقة بين أجنحة السلطة وبين الطموح والقيم، كانت بطريقة غير مباشرة تجدد الحاجة إلى هذا الاتزان بما كانت تصنعه من أجل هزه وإنهائه؛ أي بما كانت تصنعه من التأليب المستمر للقوى الإقليمية الصغيرة ضد الكيانات الكبيرة.

ومن العجيب أن فرنسا منذ ثورتها في 1798، ثم عصر نابليون وحروبه ومعاركه لم تذق طعم الانتصار إلا حين تحالفت مع العثمانيين والبريطانيين (ومعهم مصر وتونس) في حرب القرم ضد روسيا، وكان هذا النصر بمثابة بداية لعصر جديد من الرضا عن الذات شعرت به فرنسا، واستلذ به الفرنسيون.

أصابع فرنسا لم تكف عن تأليب الصرب والبلغار

والحقيقة أن أصابع فرنسا كانت موجودة على الدوام في تأليب الصرب والبلغار على العثمانيين من ناحية وعلى النمساويين من ناحية أخرى وعلى الروس من ناحية ثالثة، وكانت بريطانيا بنزعتها الاستعمارية وقدرتها الإمبريالية قادرة على تعديل التوازنات بما يصب في مصلحتها في النهاية، وكانت مصلحتها تميل تماما للاستقرار، ونحن نلاحظ أن كفة الرأي البريطاني كانت ترجح كثيرا؛ حيث كانت فرنسا تقبل أي ترضية حتى ولو معنوية.

عودة فرنسا إلى تذوق الانتصار بتحالفها مع العثمانيين

ومن العجيب أن فرنسا منذ ثورتها في 1798، ثم عصر نابليون وحروبه ومعاركه لم تذق طعم الانتصار إلا حين تحالفت مع العثمانيين والبريطانيين (ومعهم مصر وتونس) في حرب القرم ضد روسيا، وكان هذا النصر بمثابة بداية لعصر جديد من الرضا عن الذات شعرت به فرنسا، واستلذ به الفرنسيون.

الخداع الفرنسي في مواجهة الواقع

أما الصرب والسلاف والبلغار واليونان والأرمن، فقد عاشوا عقودا متصلة من التمزق في الشعور الوطني بين هذا الخداع، الذي خدعتهم به فرنسا ومثيلاتها من الثورة على العثمانيين، والتخلص من حكمهم، أو من انتمائهم لمنطقة العثمانيين الجغرافية (وهو ما تكرر مع النمساويين ومع الروس)، وبين ما صادفته شعوب الصرب والبلغار والأرمن واليونان من الروح الأوروبية، التي سيطر عليها طابع نكث العهود، والبعد عن تحقيق أي تعاون أو مساندة تنموية أو أخلاقية لهذه الشعوب، التي دُفعت مرة بعد أخرى إلى التمرد المسلح على العثمانيين تحت دعوى اختلاف الدين، ثم لم تجد من المشتركين معها في الدين إلا صورا متكررة من الاستعلاء والعنصرية والمباهاة بالعرق وتفوق الجنس.

الأوروبيون ودعم النزعات الانفصالية

كان العثمانيون بحكم تعاليم دينهم لا يمانعون الإحسان للجار غير المسلم ما دام قد كف عنهم شره، لكن الأوروبيين، وفي طليعتهم بعض القوى الفرنسية، كانوا بحكم تمكنهم من الثقافة والمسرح والكتاب ولغة التعليم يجددون مشاعر الكراهية للعثمانيين والمسلمين عند هذه الشعوب والقوميات المحيطة بالدولة العثمانية، أو التي كانت جزءا منها طوال عقود ممتدة. وبوسعنا أن نقدم قائمة بالفترات التي حكم فيها العثمانيون المساحات القومية التي أصبحت الآن دولا مستقلة، لنرى أن نهاية حكم العثمانيين لهذه “الدول القومية” على حد ما أصبحت تسمى لم تكن نتيجة حروب حضارية حقيقية أو حروب دينية، وإنما كانت في حقيقة الأمر نتيجة للتطوير المتسارع لنزعات انفصالية (باستغلال ضعف أو مشكلات الدولة المركزية في إسطنبول).

مع أن معظم هذه النزاعات العتيقة والنزعات الانفصالية كان من الممكن احتواؤه، فإن إلحاح الأوروبيين ركز على دعم دوافع الانفصال التام عند هؤلاء المتمردين، وقد حدث هذا وتكرر في صربيا وفي الجبل الأسود وفي كرواتيا ومقدونيا واليونان ورومانيا وبلغاريا ومولدوفا، ثم تفاقم على نحو متكرر بدون أن ينتبه أحد إلى الحقيقة المرة التي حدثت بالفعل.

 


زر الذهاب إلى الأعلى