ثقافية

التأريخ الرمزي عند الأتراك.. من حساب الجُمَّل إلى مقاييس الإنشاءات

يقول ابن خلدون: “التاريخ فنّ.. يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم وحضاراتهم، وفي ظاهره لا يزيد على الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق”.

وفي تركيا اتخذ التأريخ شكلا فنيا مختلفا، وفي باطن هذا الفن قدّم النظر والتأمل والتذكير، وحوّل الأرقام والتواريخ إلى ذكريات قائمة باقية تُصر على تقديم الماضي في شكل “جُمل وكلمات” موجزة، وفي شكل مادي متجسد في معمار كائن وواضح ذو أبعاد، ليدل على حدث أو فاصل زمني مهم جدير بهذا التوقف.

وأخذ التأريخ شكلين فنيين متميزين، يعتمد أولهما على تأريخ الماضي في شكل “أبيات شعرية” موجَزة بطريقة تُسمى “حِساب الجُمَّل”، ويعتمد ثانيهما على شكل مادِّي متجسد في معمار كائن وواضح ذي ومقاييس تدلّ على حدث أو فاصل زمني مهمّ جدير بهذا التوقف والتذكُّر.

أولًا: التأريخ الشعري (حساب الجُمَّل)

حساب الجُمَّل هو أن تؤرَّخ حادثة ما كتابياً في بيت أو شطر بيت من الشعر، اعتماد على القيمة العددية لكل حرف، وفقاً لقواعد محددة، وهو فنّ عرفته العرب منذ العصر الجاهلي، لكنه لم ينتشر على نطاق واسع ويصبح بدعة العصر إلا في زمن الدولة العثمانية، حيث ازدهر منذ القرن الخامس عشر ثم تطور في السنوات الأخيرة للدولة العثمانية.

يقول الدكتور عمرو منير، الأستاذ المساعد في التاريخ الإسلامي والوسيط بجامعة أم القرى وعضو هيئة التدريس بجامعة جنوب الوادي بمصر، لـTRT عربي، إن حساب الجُمَّل قديم ومعروف بين العرب، وموجود في الحضارة الإسلامية عموماً وفي مصر بوضوح أكثر في العصر المملوكي، ولم يقتصر على أبيات الشعر والتأريخ، بل كان مستخدماً في كتب السحر العربي وفي كتب الشفرة/التعمية والمراسلات السرية والرسمية بين الدول، بخاصة في فترة حكم المماليك، وتوارثه النُّسَّاخ حتى وصل إلى العثمانيين”.

كيف تُحسب القيمة العددية لبيت شعر؟

يعتمد الأمر في الأساس على ترتيب الحروف أبجديّاً (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ)، ولكل من هذه الحروف قيمته العددية كالتالي:

أ=1، ب=2، ج=3… ي=10، ك=20، ل=30… ق=100، ر=200، ش=300… غ=1000.

بالتالي يؤلف الشاعر بيت شعر هو غالباً آخر بيت في قصيدته، يكون فيه إجمالي قيم الحروف هو نفسه رقم السنة التي يقصدها، سواء بمدحه لحدث في سنة ما أو برثائه شخصية، غالباً مرموقة، توُفّيت في ذلك العام.

من ذلك مثلًا مثل قول الشيخ مصطفى البكري الصديقي يوم وُلد ابنه محمد كمال الدين: “ختام مسك قد حواه يفتدى فأرّخـوا محمد ختام”، وبحساب القيمة العددية لحروف ختام هذا البيت نجد أنها تساوي 1140، وهو ما يعادل السنة الهجرية التي وُلد فيها ابنه.

نقش مسجد محمود باشا بريشة الخطاط يوسف أفندي (1514-1611)
(Others)

ومن أمثلة حساب الجُمَّل في الدولة العثمانية ما قاله ابن المبلّط في تاريخ جلوس السلطان العثماني سليم الثاني بن سليمان القانوني:

“ودولةُ ملكٍ قلتُ فيها مؤرّخاً.. سليم تولّى الملكَ بعد سُليمانِ”.

وبحساب قيمة أعداد حروف الشطر الثاني من هذا البيت نجد أنها تساوي 974، وهو نفسه العام الهجري الذي جلس فيه السلطان سليم الثاني على العرش.

كذلك في حالات الوفاة، فقد كان العرب قديماً يكتبون قصائد رثاء، وأخذ العثمانيون هذه الطريقة عنهم، ففي وفاة الشيخ محمد المحبي قال الشاعر الشهاب العمادي:

“مات المحبي شيخي وكان نعم المحبّ فقلت يا صاحِ أرّخْ بالشام قد مات القطب”

وبالحساب أيضاً نجد أن القيمة العددية لحروف الشطر الأخير تساوي عام الوفاة 1030 هجرياً.

ثم أخذ العثمانيون في التأريخ للمباني بكتابة جمل على أبوابها أو أبيات شعرية تساوي قيمة حروفها سنة البناء، فمثلاً حين بنى لالا مصطفى باشا حمام “الراس” الذي كان في مدخل سوق السروجية عام 971 هجرياً كُتب على مدخله:

“نادت طرباً وأرّخت منشده.. حمامك أصل راحة الأجسام”

ولا تبلغ قيمة الأحرف فقط السنة الهجرية، بل ونُظمت لتتوافق مع دَور الحمام في الراحة والاستجمام، فهو ليس كلاماً مُرسَلاً، بل به إيجاز وإشارة إلى التاريخ، ويدلّ أيضاً على المعنى المرتبط بوظيفة المكان، كأنها جملة “سلوغان” (ترويجية)، ولكن على الطريقة القديمة.

يشبه هذا ما نجده منقوشًا على بوابة المسجد الحسيني وسط العاصمة الأردنية عمان، إذ نُقشت فوق باب المسجد أبيات تؤرّخ زيارة الملك المؤسس عبد الله الأول حين وصوله إلى عمان إبان تأسيس إمارة شرق الأردن، وكان تأسيس المسجد في 1341هـ الموافق 1923م، وفي ختام الأبيات تأريخها:

“لذاك سعيدُ الجدُّ قال مؤرّخاً بفضل حُسينٍ جلَّ مسجدُ عَمَّانِ”

وهو ما تساوي قيمة حروف شطره الثاني العام الهجري الذي بُني فيه المسجد.

ترتبط حكاية طريفة من حكايات حساب الجُمَّل بوفاة السلطان برقوق، وهو ﻣن سلاطين ﺍلمماليك ﺍلبرجية، فعندما توُفّي صاغ المؤرخون عباﺭة تحدد تاﺭﻳﺦ ﻭفاته، هي “في ﺍلمشمش”، ﻭﻳبدﻭ أنهم ﺍختاﺭﻭﺍ عباﺭة فيها طرﺍفة بوفاة “ﺑرﻗوﻕ” “في ﺍلمشمش”، والقيمة العددية لهذه العبارة تساوي 801، وهو عام وفاة السلطان برقوق 801 هجريّاً.

نقش على بوابة مسجد على آغا بمدينة الزقازيق في مصر. تصوير عمرو منير
(Others)

يضيف الدكتور منير أن “مسجد علي أغا بمدينة الزقازيق في مصر يؤرَّخ لتاريخ بنائه بحساب الجُمَّل على لوحته التأسيسية بمدخل المسجد، وكان حساب الجُمّل موجوداً أيضاً في المخطوطات العثمانية والمملوكية، فكان الكتاب يُنهَى ببيت شعر له معنى وموزون، يؤرّخ لعام اكتمال كتابته”، ويوضح منير لـTRT عربي أن “هذا دليل على الملكات الذهنية التي كان يمتلكها المدوّن والمعماري والنساخ، وحرصهم على التدوين بهذه الطريقة”.

ثانياً: التأريخ بمقاييس المُنشآت

مع مرور الوقت تراجعت طريقة حساب الجُمّل في التأريخ، وظهر في تركيا طريقة جديدة مُستمَدَّة بشكل ما من القديمة، ولكن عن طريق حساب مقاييس المباني والمُنشآت، فهذا جسر يساوي طوله بالأمتار نفس عامٍ تُخلَّد فيه ذكرى ما، وهذه مئذنة ستُشيَّد بارتفاع معيَّن يرمز إلى سنة ميلاد قائد عظيم، وطول قُطر قبة الجامع تلك ترمز إلى أرقام عام آخر مجيد، وهكذا، وإن زادت على القديمة أنها تشمل التواريخ الميلادية.

جسر جناق قلعة ومقاييسه التأريخية

بُنيَت عدة مبانٍ حديثة في تركيا تؤرّخ بطريقة حساب الأمتار والمساحات وأعداد الجدران والزوايا، فمثلاً جسر جناق قلعة 1915، وهو أحد المشاريع الضخمة في تركيا الذي يربط بين قارَّتَي آسيا وأوروبا فوق مضيق جناق قلعة، بُنيَ ليرمز إلى ذكرى انتصار جناق قلعة، فارتفاعه الذي يبلغ 318 متراً يرمز إلى الانتصار في 18 مارس/آذار، كما وُضعَت 4 مجسمات مدفعية يزن كل منها 75 طنّاً ويبلغ ارتفاعها 20.5 متراً أعلى الأبراج الأربعة، لترمز إلى قذيفة المدفع التي حملها على ظهره سيت أونباشي، أحد أبطال حرب جناق قلعة.

جامع تشامليجا.. تاريخ السلاطين القائم

لا تقتصر شهرة جامع تشامليجا على مساحته الهائلة التي تبلغ 57.5 ألف متر مربع ويستطيع استضافة 63 ألف مُصَلٍّ، ولا على أنه مبنيّ فوق أعلى نقطة بإسطنبول مما يتيح رؤيته من أي مكان في المدينة، ولا على مكتبته الواسعة، ومعرض فنونه البالغة مساحته 3.5 ألف متر مربع، وورشاته الفنية الثماني، وقاعة مؤتمراته التي تتسع لـ1071 شخصاً، ولكن بالتدقيق في تفاصيله سنرى دلائل ورموزاً على تواريخ مهمة للدولة العثمانية، أساس الجمهورية التركية الحديثة.

جامع تشامليجا الأكبر في تركيا والواقع في مدينة إسطنبول القسم الآسوي
(Others)

فالجامع يحتوي على 6 مآذن تمثّل أركان الإيمان الستة، منها أربع مآذن يبلغ طولها 107.1 متر ترمز إلى ذكرى معركة ملاذكرد التي فتحت الطريق لدخول الأتراك الأناضول والسيطرة عليها وتأسيس الدولة العثمانية عام 1071، كما أن القبة الرئيسية للجامع يبلغ ارتفاعها 72 متراً ترمز إلى 72 عرقية مختلفة تعيش في إسطنبول، حتى قاعة مؤتمراته تتسع لـ1071 شخصاً لا 1070، وذلك بالطبع يرمز إلى عام الانتصار في ملاذكرد.

كذلك أعاد مبنى الجامع إحياء تقنية قديمة كان اخترعها المعمار سنان، أشهر المعماريين العثمانيين الذين عاشوا في القرن العاشر الهجري (أوج العصر الذهبي للعمارة العثمانية)، الذي حسّن انعكاس الصوت عن طريق القباب في مسجد السليمانية، فحرص فريق العمل المشرف على بناء جامع تشامليجا على نقل هذه التقنية الخاصة بالصوت إلى قبابه، ليصبح الجامع رمزاً لتاريخ نصرٍ، ولتعايُش عرقيات، ولمعماري عظيم.

ويبدو صدى هذه الطريقة في أن أن تركيا تُحيِي في شهر أغسطس/آب من كل عام ذكرى معركة ملاذكرد التاريخية التي انتصر فيها السلاجقة بقيادة السلطان ألب أرسلان على البيزنطيين عام 463 هجريّاً الموافق 1071 ميلاديّاً، وفي هذا الإطار بدأت الاحتفالات بشكل مختلف هذا العام بقراءة القرآن الكريم في كل مساجد تركيا على أرواح شهداء المعركة، ولكن بطريقة ترمز إلى عام الانتصار، بختم المصحف الشريف 1071 مرة، وتلاوة سورة يس 1071 مرة، وسورة الفتح 1071 مرة، في جميع مساجد تركيا، في إشارة إلى العام الميلادي الذي وقعت فيه أهمّ معركة في تاريخ تأسيس الدولة العثمانية وأساس الدولة التركية الحديثة.

 

TRT عربي

زر الذهاب إلى الأعلى