روائع التاريخ العثماني

التكايا العثمانية.. مصنع الدراويش والمحاربين

تعرَّف على تاريخ "التكية" وتطورها في الدولة العثمانية

في إطار حلقات المسلسل التركي المؤسس عثمان الذي يحكي قصة تأسيس الدولة العثمانية، يظهر الشيخ “أديب علي” وهو شيخ عثمان، ويُعتبر المؤسس الروحي للدولة العثمانية. يظهر الشيخ في “تِكِيَّة”، وهي المكان الذي يجتمع فيها “الدراويش” حيث يقطنون ويتلقون دروسهم ويتعبّدون ويمارسون حياتهم الطبيعية.

 

في التكية؛ يجتمعُ كلُّ من يريد الشيخ أو يريد أداء الفرائض أو تلقِّي الدروس، وأحد هؤلاء كان عثمان الذي كثيراً ما يذهب إلى شيخه لتلقِّي المشورة والنُّصح بخصوص ما يتخذه من قراراتٍ تخص قبيلته وتخصّ تأسيس الدولة العثمانية.

من التكية أيضاً، يتخرَّجُ الدراويش الصوفيون محاربين في صفوف جيش عثمان، ليصبحوا بذلك جزءاً أصيلاً من بنية دولته التي تتكوَّن. من هنا، سيشهد التاريخ العثماني بزوغ قوَّة التكايا والطرق الصوفية. فأحياناً كانت هذه الطرق والتكايا تتحكّم في بعض اتجاهات الدولة، بمؤازرة أو معاداة هذا السلطان أو ذاك.

 

 

 

من المماليك إلى العثمانيين: هل أصل “التكيّة” فارسي أم عربي؟

 

في اللغة العربية يُرجِعُ البعض أصل كلمة “تِكِيّة” إلى “الاتكاء” وهو المعنى ذاته في اللغة التركية. أما المستشرق الفرنسي كليمان هوارت فيرجعها إلى كلمة “تكية” الفارسية التي تعني “الجِلْد”، الذي كان يستخدمه المتصوفون في التكايا، ويجعلونه شعاراً لهم رمزاً للزهد والتَّقشُّف.

 

أمَّا فكرة التكايا نفسها فقد ظهرت -على عكس المعروف- قبل نشأة الدولة العثمانية. فعند المماليك حكّام مصر والشام انتشرت التكايا باسم “الخانقاه” التي كان يؤسسها السلاطين والأمراء لرعاية طلاب العلم والمنقطعين للعبادة، وتوفِّر لهم سُبُلَ العيش داخلها من غذاءٍ ومبيت وغيرها.

 

 

 

إلا أنّ التكايا في العهد العثماني تميَّزت عن الخانقاوات المملوكيّة، فقد كان لها دورٌ بارز في تسيير أمور الدولة والتأثير أحياناً على قرارات السلاطين، أو دعمهم لتنفيذ بعض الأهداف، ومشاركتهم في توجيه الناس والمشاركة أيضاً في النزاعات المسلحة.

 

يؤكد المهندس المعماري الأمريكي المعاصر، ريموند ليفشيز، وهو أحد المهتمين بالمعمار العثماني في كتابه “تكايا الدراويش” ما هو واضحاً بالضرورة: ترك الإسلام بصمته الواضحة على المعمار في كامل أنحاء الدولة العثمانية، خاصةً في العاصمة إسطنبول التي امتلأت بالمساجد والمدارس والتكايا.

 

وبينما كانت تمتاز المساجد والمدارس بالفخامة والضخامة، كانت التكايا أبنيةً متواضعة وبسيطة حتى يكاد الناظر لا يميّزها عن غيرها إلا بوجود مدخلٍ مُزخرَف للتكية أو نوافذ صغيرة تظهر ما في داخل التكية، وهو ما ميزها عن باقي المباني والبيوت المحيطة بها.

 

 

المساجد هي “بيوت الله على الأرض”، ولهذا أراد السلاطين أن تَمنَحَ الداخلين إليها الشعور بالخشوعِ والجلال والرهبة، كما كانت المدارس ساحةً للعلماء الذين يحظون بمكانةٍ خاصة داخل الدولة العثمانية فكانت ذات طراز معماري مميَّز وشاهق أيضاً، يدل على العراقة وحرمة العلم.

 

 

 

أمّا التكايا فكانت تُبنَى على النقيض من ذلك؛ بجهودٍ مُتضافرة لأفرادٍ عاديين من عامة الشعب، والتي كانت تُخصَّص لمريدي الطرق الصوفية، أي الدراويش.

 

 

إلا أنّ أشكال التكايا تعدَّدت فيما بعد، وأصبحت ذات طرازٍ معماريٍّ ينافس طراز المساجد الفخم ويضاهيها. في هذا الصَّدد يشير ليفشيز في كتابه سابق الذكر، أنّ هناك أشكالاً أخرى من التكايا؛ من بينها “الأستانة” وهي التكية التي تؤول إلى إحدى الطرق الصوفية الكبيرة. فيما كانت الزاويا الصغيرة مُخصَّصة للدراويش الذين لا ينتمون إلى أيٍّ من الطرق الصوفية، ويتخذون من هذه الزوايا مسكناً لهم.

 

 

الطريقة “النقشبندية”.. أهم وأقوى التكايا في الدولة العثمانية

في عهد السلطان محمد الفاتح، كانت الدولة العثمانية تواجه خطر تفتُّت الأناضول بسبب المد الشيعي الذي كان ينمو على يد الدولة الصفوية الناشئة آنذاك في إيران، وهو ما جعل محمد الفاتح يستعين بالطرق الصوفية لمحاربة ذلك التمدُّد الشيعي، وكانت أهم هذه الطرق: الطريقة النقشبندية التي أصبحت مالكة أكبر التكايا في إسطنبول والدولة العثمانية، وحتّى لاحقاً: في الجمهورية التركية الحديثة.

 

 

 

تذكر الدكتورة حنان المعبدي في إطار أطروحتها للدكتوراه بجامعة “أم القرى” السعودية بعنوان “التصوف وآثاره في تركيا إبان العصر العثماني” أنّ الفاتح قد دعا عبدالرحمن الجامي أحد كبار مشايخ الطريقة الصوفية، والذي اشتهر بشدَّتِهِ ضد الشيعة والتشيع، لتأسيس التكية النقشبندية داخل الدولة العثمانية لما ستعمل عليه هذه التكية من محاربة التمدد الشيعي داخل الأناضول، حيث كان الجامي في ذلك الوقت مستقراً في سمرقند، إلا أن وفاة الفاتح حالت دون انتقال الجامي إلى إسطنبول.

 

لاحقاً، دعا بايزيد الثاني بن محمد الفاتح الجامي مجدداً، إلا أنّ الطاعون كان قد انتشر آنذاك، فلم يستطع الجامي المجيء، إلا أن الدولة العثمانية كانت ترسل للتكية النقشبندية كل عام ألف ليرة ذهبية وخمسة آلاف أقجة (العملة السائدة في الدولة العثمانية)، وفي هذه الأثناء تمكّن عبدالله الإلهي -أحد مشايخ الطريقة النقشبندية- من القدوم إلى الدولة العثمانية.

 

 

وفي إسطنبول أمر بايزيد الثاني بإنشاء تكية باسم الشيخ عبدالله الإلهي بجانب جامع الفاتح -وهو أحد أكبر مساجد إسطنبول-. استخلف الإلهي من ورائه الشيخ أحمد البخاري، لينطلق هو ناشراً دعوته في أرجاء الدولة العثمانية، ولتنتشر معه التكايا النقشبندية في العديد من المدن العثمانية.

 

وبعد وفاة الشيخ عبدالله الإلهي، أصبحت الطريقة مُشكَّلَةً على ثلاثة أقسام:

  • قسمٌ يعمل على مجالس الوعظ والإرشاد.
  • قسم آخر يقوم بالتدريس والتأليف
  • القسم الأخير يعمل على إنشاء التكايا في أرجاء الدولة لنشر الطريقة، ما زاد نفوذ الطريقة داخل منطقة الأناضول.

 

 

التمدد النقشبندي نحو العراق والشام

 

بعد انتشار ورسوخ التكايا النقشبندية داخل أراضي الأناضول، تمكَّن شيوخ الطريقة من تقوية نفوذهم داخل القصر في زمن السلطان سليمان القانوني، إذ أصبح مُصلح الدين مصطفى أفندي، وهو أحد مشايخ النقشبندية، مُعلِّم الأمير مصطفى بن السلطان القانوني وولي عهده.

 

 

أمّا محمود أفندي المُلقَّب “بابا أفندي” فقد أصبح أباً روحياً للصدر الأعظم وزوج ابنة السلطان سليمان: رستم باشا. وبهذا استمرت الطريقة النقشبندية في الانتشار وإنشاء التكايا في أرجاء الدولة العثمانية على مدار تاريخ الدولة فيما بعد.

 

 

أخذ تأثير الطريقة النقشبندية منحىً آخر في أواخر عهد الدولة العثمانية، في القرن التاسع عشر، وفي عهد السلطان محمود الثاني.

 

 

 

تطوّرت الطريقة النقشبندية تطوراً كبيراً على يد الشيخ “خالد البغدادي”، ذلك الشيخ الذي انتشر اتباعه بشكلٍ كبير في أرجاء الدولة العثمانية خاصة العاصمة إسطنبول، ما أثار تخوفات السلطان نفسه من وجود أهداف سياسية لمشايخ الطريقة الخالدية النقشبندية، ما جعله ينفى مشايخ الطريقة من إسطنبول ومنعهم من دخولها مجدداً.

 

 

كان الشيخ خالد البغدادي مقيماً في ذلك الوقت في بغداد، وقد كانت تابعة آنذاك للدولة العثمانية، فأصدر السلطان أوامره بالتحقيق مع البغدادي ومعرفة ما يهدف إليه، وقام بهذه المهمّة والي بغداد: داوود باشا.

خَلُصَ تحقيق داوود باشا إلى أنّ البغدادي لا يسعى لتحقيق أي مصالح سياسية، وأنه بعيد عن شؤون السياسة، ولاحقاً تعهَّد الوالي للسلطان بأن البغدادي “لن يتدخَّل في أي من شؤون الدولة أبداً”، كما تنقل حنان المعبدي في كتابها سابق الذكر عن التصوّف في الدولة العثمانية.

 

 

لكنّ هذ الاحتكاك بين الطريقة والدولة لم يمرّ مرور الكرام، فقد تغيّرت سياسات الدولة نحو الطريقة الخالدية النقشبندية. فاتخذت الطريقة عوناً وسنداً لها في شؤون الحكم، وبذلك قامت الدولة بالترويج لفكر الطريقة ونشر التكايا الخالدية في كل أرجاء الدولة خاصة في المناطق الكردية والعربية التي كانت التمردات قد بدأت تظهر فيها ضد الدولة العثمانية.

وبعد وفاة الشيخ خالد البغدادي، استمرَّ نفوذ الطريقة في أرجاء الدولة، خاصّةً في الشام والعراق، ما جعل هذه المنطقة تحظى بهدوءٍ وأمانٍ نسبيّ رغم ما تشهده الدولة العثمانية من توتر وإخفاقات في العديد من المسارات بشكلٍ عام. ويرجع سبب هذا الهدوء في مناطق الأكراد والعرب في العراق والشام إلى إجلال الناس الطبيعي لمشايخ الطريقة، والوقوع تحت تأثيرهم الروحي.

 

 

في المقابل كانت الطريقة تتلقى دعماً مادياً من خزانة الدولة العثمانية وصل إلى 1500 ليرة ذهبية سنوياً، وكانت الطريقة الخالدية النقشبندية تعتمد على كلٍّ من المدارس والتكايا لتعليم وإيواء أتباعها، ما ضمن لها الكثير من الأتباع.

 

 

النقشبندية المُسلَّحة 

 

بحلول عام 1862 كانت الحركات الفكرية والسياسية المنادية بـ”اليقظة والنهضة الحديثة واللحاق بالغرب” قد انتشرت في أرجاء العالم العربي، وكذلك في مناطق الدولة العثمانية الأخرى.

 

 

أدّى انتشار هذه الأفكار والحركات إلى تراجع تأثير التكايا النقشبندية في الشام، ومع الوقت اختفت الطريقة من هناك وبقيت في المناطق الكردية فقط حيث كانت الطريقة تعتمد على أسلوبٍ مختلف من نوعه في التعامل مع الناس ما أبقى تأثيرها قوياً في تلك المناطق.

كان مشايخ النقشبندية محلَّ توقير من قِبَل الولاة العثمانيين في المناطق الكردية بجانب ما كانوا يحظون به من مقامٍ عند السلطان، وهو ما أكسبهم قوة سياسية كبيرة في المناطق الكردية وجعلهم حجر الزاوية في تلك المناطق.

 

 

 

لكن مع مقدم السلطان عبدالحميد الثاني إلى سدة الحكم، حدث تغيُّر هائل في علاقة الطريقة النقشبندية بالدولة العثمانية والسلطان. وكان على رأس الطريقة حينها الشيخ عبيد الله الكيلاني.

كان عبيد الله يعارض سياسة السلطان عبد الحميد بسبب ما اعتبره سياسة إهمال للأكراد، وفي تلك الآونة بينما كان عبيد الله يعارض سياسات السلطان، كانت الطريقة النقشبندية تعمل على إدخال العشيرة المسيحية الآشورية المجاورة لها إلى الإسلام، وجاء الرفض قاطعاً من قِبَل العشيرة.

 

 

جمع عبيد الله جيشاً مكوناً من مريدي الطريقة قوامه 20 ألف مقاتل لمهاجمة العشيرة الآشورية، وبذلك زحف عبيد الله ليقتل ويشرِّد أفراد العشيرة، بجانب دخوله الأراضي الإيرانية متحدياً الدولة العثمانية والإيرانية معاً، فداهمته القوات العثمانية وألقت القبض عليه هو وابنه عبد القادر، ونفتهما.

بعد موت عبيد الله في منفاه، تولَّى من بعده ابنه عبد القادر الذي أسس جمعية كردية تهدف لإقامة دولة كردية، وهو ما جعلها تتعاون مع الثوّار وتعمل على إشعال الثورة في المناطق الكردية، ما أدى إلى إلقاء القبض على عبد القادر وتنفيذ حكم الإعدام بحقه عام 1925.

 

 

أما في إسطنبول؛ فكان أحد مشايخ النقشبندية في إسطنبول، ويدعى أسعد الأربيلي أكثر من عارض السلطان عبد الحميد، إذ كان موالياً لجمعية الشبان الأتراك التي كانت تهاجم سياسة السلطان وتقيم حرباً سياسية ضاريةً ضده.

بسبب ذلك، نفى السلطان الشيخ أسعد الأربيلي إلى موطنه الأصلي أربيل في العراق حالياً. تسبّب هذا التذبذب في علاقة الطريقة بالسلطان في بعض التململ من قبل بعض مريدي الطريقة من الشيخ أسعد الأردبيلي. وعندما خلفه محمود سامي رمضان أوغلو في مشيخة الطريقة حاول استيعاب هذا التململ من سياسات سلفه.

في الجهة المقابلة؛ كان أحد كبار مشايخ الطريقة النقشبندية في إسطنبول، وهو أحمد ضياء الدين الكموشخانوي يحظى بسمعةٍ طيبة في أوساط السياسيين ورجال الدولة، وجعله ذلك ذو تأثيرٍ على دوائر الحكم والسياسة في الدولة العثمانية.

كان هذا هو الفصل الأخير من تأثير التكايا على أروقة الحكم والسياسة في الدولة العثمانية. فقد أُلغيت الخلافة بعد ذلك بعدة سنوات، وتأسّست بعدها الجمهورية التركية الحديثة التي حاربتها الطرق الصوفية.

 

 

التكية بعد تفكك الدولة العثمانية  

بعد تفكُّك الدولة العثمانية وقيام الجمهورية التركية الحديثة على يد مصطفى كمال باشا (أتاتورك) الذي اعتلى سُدَّة الحكم عام 1923، بات المنتمون للتكايا الصوفيّة على المحك.

بالرغم من أن الطرق الصوفية وفي مقدمتها النقشبندية شاركت في الكفاح ضد الاستعمار الأوروبي دفاعاً عن البلاد في فترة الحرب العالمية الأولى وما بعدها، فإنّ أتاتورك بعد سنتين من حكمه أدرك مدى توغُّل الطرق الصوفية في المجتمع والدولة، ما كان يعرقل خططه في فرض العلمانية أساساً للدولة التركية الحديثة، وهو ما جعله يتخلّص من تلك الطرق.

في عهد أتاتورك، صدرت القوانين بإغلاق التكايا والزوايا الصوفية، ومنع اجتماع الأشخاص حول الذِّكر، فقد جرَّمت القوانين اجتماع خمسة أشخاص لذكر الله، وهو حجر الأساس في أيّ طريقة صوفية.

كما منع الدستور كل المدارس الدينية، وبينما هاجمت الطرق هذه القوانين وعملت على تغييرها، ألقت السلطات القبض على أعضائها، وأُعدم بعض أفرادها، وصارت الطرق الصوفية مجرَّمةً طبقاً للدستور.

ردّاً على ما كابدته الطرق الصوفية من قِبَل أتاتورك، لم تَرضَخ التكايا لقرار غلق أبوابها أمام مريديها ووقف أنشطتها، ما جعلها تتحول إلى تأدية طقوسها سراً وتكوين تنظيماتٍ مُتماسكة تسمح بعدم انفراط عقد تلك الطرق.

ظلّ الحال على ما هو عليه، من حينها وحتّى مقدم الرئيس التركي تورغوت أوزال عام 1989، والذي كانت عائلته تنتمي للطريقة النقشبندية. في عهده خفَّ الضغط على الطرق الصوفية ولكن مع انتهاء حكمه عام 1993 عاد التضييق مجدداً على.

وهكذا ظلّت العلاقة المعقدة بين الطرق والتكايا الصوفية من ناحية والدولة التركية العلمانية من ناحية، حتّى مقدم حكومة العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان والذي غيَّر المشهد في تركيا كثيراً، وفي قلب هذا التغيير كانت الطرق الصوفية التي قلت الضغوط عليها، بل وعادت لتشتبك من جديد مع الملفات السياسية التي تؤيد وتدعم حكومات العدالة والتنمية المتتالية.

في تركيا الحالية هناك العديد من الطرق الصوفية، وتنتشر التكايا هنا وهناك، وتُقدر أعدادها القديمة في إسطنبول وحدها بحوالي 200 تكية. وهو عددٌ كبير طبقاً لما ذكره الناقد الأدبي البريطاني ريموند ليفشيز في كتابه “تكايا الدراويش“، لكنّ بعض التقديرات الأخرى تجعلها 350 تكية.

وكما كانت الطريقة النقشبندية هي الأكبر في الدولة العثمانية، لا زالت هي الأكبر في تركيا اليوم. ويُقدَّر عدد أتباعها في إسطنبول فقط بمليون مريد، وذلك بالرغم من أن القانون المانع لوجود الطرق الصوفية في تركيا لا يزال سارياً، لكنّه على الورق فقط وغير معمولٍ به.

جعل هذا الوضع الطرق الصوفية عنصراً مهماً وحيوياً في النزول للشوارع عام 2016 لرفض الانقلاب الأخير الفاشل في تركيا. وفي أثناء ذلك قُتل بعض أفراد هذه الطرق على يد أفراد من الجيش، كما قال نجدت طوسون الأستاذ في جامعة “مرمرة” التركية، والمتخصص في شؤون الطرق الصوفية في فيلم وثائقي على قناة “الميادين”.

كما تحولت التكايا -خاصة النقشبندية- إلى مصدر دعم لرافضي الانقلاب والمتظاهرين بالغذاء والماء والكساء والدواء أثناء أحداث الانقلاب، وبعد انتهاء الانقلاب تحوّلت التكايا النقشبندية إلى ملتقى للسياسين لإلقاء المحاضرات والخطب على مدار شهرٍ ونصف.

يقول الخبير في الطرق الصوفية الدكتور سليمان ديرن إن هناك من السياسيين من أصبح من أتباع الطرق الصوفية، فقد انتمى للطرق الصوفية وزراء وأعضاء برلمان.

كما يعتبر ديرن أن الطريقة النقشبندية هي أبرز الطرق الصوفية المؤثرة على الساحة السياسية التركية، إذ يُعد تأثير باقي الطرق الصوفية محدوداً بالمقارنة مع الطريقة النقشبندية.

طُرق كبرى أخرى

 

 

أما عن باقي الطرق الصوفية التي يأتي على رأسها الطريقة المولوية، فتُدرس العلوم في التكايا المولوية -وفقاً لما ذكرته إسين جلبي بايرو حفيدة جلال الدين الرومي- بجانب طقوس رقصة الدراويش المعروفة بـ”السما”، حيث يدورون بالملابس المولوية المشهورة.

ففي هذه التكايا تُدرّس اللغة العربية والفارسية وقراءة القرآن الكريم والتاريخ والخط العربي، وكذلك الموسيقى والفنون اليدوية، ما جعل من الطريقة المولوية حركة ثقافية تستقطب العديد من الناس من جميع أنحاء العالم.

بهذا الصدد، تُستخدم رقصة الـ “سما” أو “السماح” والموسيقى الصوفية في تشجيع وتنشيط السياحة في تركيا، إذ تحولت تلك الطقوس الصوفية المولوية إلى فنون شعبية فلكلورية، والتي أصبح يتقنها المتمرسون من غير المتصوفين الذين ينظمون الاحتفالات والمهرجانات، ويتقاضون عليها أجراً.

في حين أن المتصوفين المولويين لا يتقاضون أجراً على ذلك ويفعلون ذلك كطقس إيماني، يقومون قبله بالوضوء والصلاة، ويرددون أثناءه الذكر، خاصة كلمة “الله.. الله”.

إن هذه المشاهد التي عرضناها عن الطرق الصوفية، وفي القلب منها الطريقة النقشبندية، تُظهر جلياً كيف أن الطرق الصوفية والتكايا في تركيا ومن قبلها الدولة العثمانية لم تكن يوماً كياناً للذكر والعبادة فقط، بل كانت مسرحاً للأحداث السياسية، وانطلاقة لبعض التغيرات في البلاد، وهو ربما ما يميز الطرق الصوفية والتكايا في تركيا عن باقي تكايا العالم الإسلامي.

وتسعى الطرق الصوفية في تركيا في الوقت الحالي إلى أن تتحوّل إلى كياناتٍ قانونية معترف بها من قِبَل الدولة، للظهور من جديد والتخلي عن العمل السري الذي لازمها منذ عشرينات القرن الماضي، وهو ما يلوح في الأفق ويبشِّر بعصر جديدٍ داخل تركيا.

زر الذهاب إلى الأعلى