أخــبـار مـحـلـيـة

تركيا الرابح الأكبر.. كيف تؤثر استعادة أذربيجان لإقليم قره باغ على توازن القوى في آسيا الوسطى؟

استعادت أذربيجان السيطرة على إقليم ناغورني قره باغ الذي كانت تحتله أرمينيا، فلماذا تعتبر تركيا الرابح الأكبر من هذا التطور؟ وكيف يؤثر هذا على توازن القوى في القوقاز وآسيا الوسطى؟

كانت أرمينيا تحتل الإقليم الأذربيجاني منذ تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينات القرن الماضي، لكن أذربيجان نجحت خلال حرب خاطفة بين الطرفين عام 2020 في استعادة أجزاء واسعة من الإقليم، ثم أكملت السيطرة عليه خلال النصف الثاني من سبتمبر/أيلول الماضي.

أذربيجان تستعيد ناغورني قره باغ كاملاً

كان رئيس أذربيجان، إلهام علييف، قد أعلن استعادة سيادة بلاده على إقليم ناغورني قره باغ الذي كانت تسيطر عليه أرمينيا، بعد أن شنَّت باكو عملية عسكرية خاطفة على الإقليم يوم 19 سبتمبر/أيلول الماضي، تضمنت ضربات جوية مكثفة وطائرات بدون طيار وقصف مدفعي، وفي أقل من يومين استسلمت سلطات الإقليم الانفصالية، وحلت قواتها المسلحة وسمحت للجنود والمدنيين المحليين بمغادرة المنطقة عبر ممرات إنسانية كجزء من وقف لإطلاق النار بوساطة روسية.

والتقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره علييف في منطقة ناخيتشيفان الأذربيجانية، الواقعة بين أرمينيا وإيران ولها حدود صغيرة مع تركيا، وقال إن “انتصار أذربيجان في قره باغ يعزز فرص تطبيع العلاقات في المنطقة”، داعياً أرمينيا لاغتنام فرصة الاستقرار والسلام في المنطقة.

منصة “أسباب” المختصة بالتحليل السياسي والاستراتيجي رصدت في تحليل لها كيف يعيد انتصار أذربيجان في إقليم ناغورني قره باغ تشكيل النفوذ وتوازن القوى في جنوب القوقاز ووسط آسيا، ينطلق من جذور الأزمة في الإقليم ودعم أنقرة الثابت لباكو في هذا الصراع.

كان انهيار الاتحاد السوفييتي قد مثل نقطة الاشتعال بين الجمهوريتين السوفييتيتين السابقتين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناغورني قره باغ الواقع داخل أذربيجان ويسكنه نحو 120 ألف شخص من العرقية الأرمنية، وقد دامت الحرب الأولى بين الدولتين 6 سنوات، وانتهت عام 1994 بسيطرة أرمينيا على قره باغ وعلى مساحات واسعة مجاورة للإقليم.

قره باغ
قوات أذربيجانية ترفع علم بلادها في “قره باغ”/رويترز

واستمر الوضع على حاله حتى عام 2020، عندما استعادت أذربيجان المناطق المجاورة للإقليم بعد صراع استمر 6 أسابيع، انتهى باتفاق لوقف إطلاق نار بوساطة روسية، تم بموجبه نشر قوة حفظ سلام روسية قوامها 1960 جندياً في ممر لاتشين (Lachin corridor) الضيق الواصل بين الإقليم والأراضي الأرمينية.

كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعلن في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أن باكو ويريفان توصّلتا برعاية بلاده إلى اتفاق على “وقف إطلاق نار شامل” في إقليم ناغورني قره باغ، بينما أعلن رئيس الوزراء الأرميني وقتها أنه وقّع اتفاقاً “مؤلماً” مع كل من أذربيجان وروسيا لإنهاء الحرب، وقال باشينيان: “لقد وقّعت إعلاناً مع الرئيسين الروسي والأذربيجاني لإنهاء الحرب في قره باغ”، واصفاً هذه الخطوة بأنها “مؤلمة بشكل لا يوصف، لي شخصياً كما لشعبنا”.

أما علييف فقد تحدّث عن “وثيقة استسلام” أُرغمت يريفان على توقيعها بعد ستّة أسابيع من المعارك، وقال رئيس أذربيجان في خطاب عبر التلفزيون: “لقد أجبرناه (رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان) على توقيع الوثيقة، إنها بالأساس وثيقة استسلام”، وأضاف: “لقد قلت إننا سنطردهم (الأرمينيين) من أراضينا طرد الكلاب، وقد فعلنا”.

إعادة تشكيل النفوذ في جنوب القوقاز

فرضت باكو في أبريل/نيسان الماضي نقطة تفتيش على ممر لاتشين، تتحكم في طريق الإمداد الحيوي لمنطقة ناغورني قره باغ المعزولة، لتأكيد سيطرتها على الأراضي التي تنتمي قانوناً إلى أذربيجان ولكنها تظل خارج نطاق سيادتها بموجب اتفاقية وقف إطلاق النار عام 2020. فيما جاء الرد الروسي خافتاً على إنشاء نقطة التفتيش، حيث أعربت فقط عن مخاوفها من أن تمثل انتهاكاً للهدنة؛ إذ قدرت أذربيجان أن المتغيرات الدولية تمنحها فرصة استثنائية لاستعادة الإقليم.

وتشمل تلك المتغيرات عدة نقاط، منها ما تواجهه روسيا من صعوبات في ساحة المعركة مع أوكرانيا، وهو ما يحد من قدرتها على التدخل عسكرياً في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، فضلاً عن ضغوط أمريكا وحلفائها الغربيين لعزل موسكو دولياً، كما أن العلاقات الروسية الأرمينية لم تعد على نفس الدرجة من القوة.

كما تعد إيران داعماً لأرمينيا، لكنها ليست في وضع يسمح بتقديم المساعدة العسكرية للانفصاليين الأرمن. في المقابل؛ يظل الدعم التركي لأذربيجان ثابتاً وحاسماً في دعم جهودها العسكرية.

وفي الوقت نفسه، تدرك أذربيجان أهميتها الجيوسياسية، حيث تعد أحد مصادر إمدادات أوروبا من الغاز الطبيعي بدلاً من روسيا، عبر ممر الغاز الجنوبي المار بتركيا، كما يمثل خط أنابيب النفط باكو-تبليسي-جيهان أهمية لأمريكا التي تسعى إلى زيادة الإنتاج العالمي وضمان استقرار أسعار النفط. وتعد أذربيجـان بوابة إلى دول آسيا الوسطى وطريق النقل الدولي “الممر الأوسط”، الذي يربط أوروبا بالصين عبر آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، ويوفر بديلاً للمرور عبر روسيا.

أرمينيا
معارك أرمينيا وأذربيجان في قره باغ / رويترز

وبالرغم من أن التزام روسيا بالدفاع عن أرمينيا بموجب معاهدة الأمن الجماعي، إلا أن علاقات الجانبين قد شهدت مؤخراً تطورات تشير إلى تدهور محتمل، حيث اتجهت أرمينيا إلى تعزيز علاقتها مع أمريكا، حيث أجريت مناورة عسكرية مشتركة للمرة الأولى بين البلدين في الفترة من 11 إلى 20 سبتمبر/أيلول الماضي، كما انتقد رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان الدور الروسي المتراجع في جنوب القوقاز، ووصف اعتماد أرمينيا الأمني على روسيا بأنه “خطأ استراتيجي”.

أرسل باشينيان مشروع قانون انضمام أرمينيا للمحكمة الجنائية الدولية إلى البرلمان الأرميني الذي أقره يوم 3 أكتوبر/تشرين أول، وهي خطوة تشير إلى الرغبة في تجنب استقبال الرئيس الروسي بوتين الصادر بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي دفع موسكو إلى وصف الخطوة الأرمينية بأنها “معادية للغاية”.

تركيا الرابح الأكبر

ومع ذلك؛ فإنه من المبكر الجزم بأن أرمينيا بصدد تحول استراتيجي كبير بعيداً عن روسيا، لكن الأرجح أنها لم تعد تراهن على موسكو كحليف دولي وحيد، حيث ما زالت الروابط الاقتصادية والأمنية بين البلدين متأصلة، ولم تنضم أرمينيا إلى جهود الغرب لعزل موسكو، بل عززت علاقاتها الاقتصادية مع روسيا مستفيدة من حاجة الأخيرة لها بسبب العقوبات الغربية.

على الجانب الآخر؛ تطورت العلاقات الروسية الأذرية منذ انتصار باكو في حرب 2020، وأصبحت أذربيجان قناة تجارية مهمة لروسيا مع نمو ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، والذي يمتد من روسيا إلى الهند ويساهم في الالتفاف على العقوبات الغربية، وبعد أن كانت روسيا تدعو إلى تجميد الأوضاع في إقليم ناغورني كاراباخ، دعمت علناً إصرار باكو على التزام سكان الإقليم بالقوانين الأذرية كجزء من أي تسوية نهائية.

وتظل أولوية روسيا هي الحفاظ على هيمنتها الإقليمية، والحد من نفوذ الأطراف المنافسة بما في ذلك تركيا والولايات المتحدة، وحتى إيران. ولا تزال روسيا أكبر مورد للأسلحة إلى أرمينيا وأذربيجـان، حيث قدمت روسيا 94% و60% من واردات الأسلحة إلى أرمينيا وأذربيجـان، على التوالي، في الفترة من 2011 إلى 2020. ومن المتوقع أن تدافع روسيا عن نفوذها في البلدين، وأن تسعى للتوازن في علاقاتها بين باكو وياريفان حتى لا تسمح بتسلل القوى الأخرى إلى مجال نفوذها الحيوي.

تركيا أذربيجان
ممر “زنغازور” الذي يربط أذربيجان بنخجوان عبر أرمينيا إلى تركيا/wikipedia

لكنّ أوجه الضعف التي أظهرتها الحرب الأوكرانية تهدد بتقويض موقع موسكو المهيمن في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، خاصة مع تصاعد جهود الغرب لعزل موسكو، ونشاط قوى أخرى منافسة أهمها الصين وتركيا والولايات المتحدة. وبينما نجحت تركيا في تطوير شراكة استراتيجية مع أذربيجـان، فإن أرمينيا ودول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى تسعى بصورة متزايدة للاستفادة من الفرص الاقتصادية والأمنية التي يوفرها التنافس الدولي والإقليمي.

ويعزز هذا الانتصار العسكري موقع أذربيجـان وتركيا إزاء إنشاء طريق يعبر منطقة سيونيك جنوب أرمينيا، وتشغيل ممر زنغزور، وهو طريق يمر عبر جنوب أرمينيا ويبلغ طوله 40 كم ويربط بين أذربيجـان وإقليم ناخيتشيفان التابع لها والمنفصل جغرافيّاً عن باقي أذربيجـان. ويمنح ممر زنغزور لأذربيجـان وتركيا طريقاً مباشراً للتجارة يربط بين آسيا الوسطى وأوروبا دون المرور بإيران، ويحد من النفوذ الذي تتمتع به طهران على باكو بشأن وصول الأخيرة إلى إقليم ناخيتشيفان.

وسبق أن قدرت تحليلات لمنصة “أسباب” بأن التنافس الجيوسياسي بين تركيا وإيران سيكون أكثر وضوحاً في المرحلة المقبلة، وتعزز التطورات في أذربيجـان هذا التقدير؛ حيث يتمتع الأتراك الآن بنفوذ على الجناح الشمالي لإيران، وهو أمر لم يتمكن حتى العثمانيون من تحقيقه على الإمبراطورية الفارسية.

وبينما كان الإيرانيون يشعرون بالارتياح سابقاً لسيطرة أرمينيا على ناغورني قره باغ والعديد من المناطق على طول الحدود مع إيران، فإن استعادة أذربيجـان سيطرتها على المنطقة تضع طهران في مواجهة أكثر مع أذربيجـان، والتي تتمتع بعمق استراتيجي عرقي في شمال إيران، حيث ينتمي حوالي ربع الإيرانيين إلى العرق الأذري ويسكنون محافظتي أذربيجـان الغربية والشرقية على طول الحدود الشمالية.

زر الذهاب إلى الأعلى