عـالـمـيـة

جراح غائرة.. عن آلام مغتصبات حرب البوسنة

“أن تكون جرح أمك الحي، الذي يذكرها في كل لحظة بويلات ما عاشت” هي ذي القولة المؤسسة لمأساة راسخة في الزمن، هي مأساة النساء البوسنيات اللاتي اغتصبن خلال الحرب التي شنت على بلادهن. حيث الجرح هنا ليس بتر طرف، أو فقء عين، كي يطبع مع غيابها وتدخل في حياة يومية طبيعية.

 

 

 

 

فيما في عموم القضية، هن ما بين 20 و 50 ألف امرأة تعرَّضن للاغتصاب، ليكون بعد ذلك الصمت والنسيان مصيرهن. وما زلن يكابدن معاناة مزدوجة، يتحالف فيها الماضي والحاضر، بين عدو ينكر ما اقترفته يداه من فظاعات في حقهم متملصاً من العدالة، ونظرة اجتماعية تزيد من معاناتهن.

شهادات عن نُدبٍ لا تزال حيَّة!

 

 

في مقابلة سابقة لها مع TRT عربي، تحدثت أينا يوزيتتش، إحدى بنات من كنَّ ضحايا للاعتداءات الجنسيَّة خلال حرب البوسنة، قائلة: “لسنوات طويلة بقيت أمي محكومة بعيش المأساة وهي تتكرر في مجتمع يلومها على الاستمرار في الحياة بعد ما وقع، ويرى فيها وصمة عار عليه ويلقي بالذنب عليها”. نفس الأمر ينطبق على باقي ضاحايا تلك الجرائم الجنسية، حيث الصمت هو القاسم المشترك، للصمم الذي ينتاب الآخر عند سماع قصصهم.

في اليوم الأول لاجتياح ميليشيات الصرب قريتها الواقعة قرب مدينة زفورنيك، ذات 21 يوليو/تموز 1995، تقول شهادة رصدها موقع Balkan Insight: “وضع الجندي فوهة بندقيته بمحاذاة رأسي، وأمرني أن أتعرى، بكيت من حرقة وهلع رافضة الامتثال. حينها، دفعني بعنف على الأريكة، وأخذ في اغتصابي بوحشيَّة”.

“لقد مررت بكل الأشياء الفظيعة، اقتلعوا أسناني، وضربوني، وجروني في الأروقة. وعندما يأتي الليل كنت أعرف تماماً ماذا سيحل بي، كنت اغتصب كل ليلة” تقول شهادة أخرى.

وتروي سيدة أخرى أفضت بما لديها أمام المحكمة الدولية، التي شفرت هويتها بـ”الشاهدة رقم 99“، قالت: “كل ليلة كان يأتي مجند ليعيننا بحركات أصبعه: أنتِ وأنتِ وأنتِ، ورائي! وكنا نتبعه كأي دواب متجهة إلى مسلخها. وكنت إذا ما لم يقع علي الاخيار تلك الليلة، أراقبهن وهن يمشين، غير موقنة أنني سأراهن مرة أخرى أم لا”. وتضيف ذات الشهادة متحدثة عن مغتصبيها:” كانوا يلبسون أقنعة لإخفاء وجوههم، ويتوالون على اغتصابنا، ويلهون بالسؤال عمّا إذا كنا نعرف من يكونون حقاً أم لا”.

شهادة أخرى يوردها الكاتب والصحافي الإسباني، خوان غويتسولو، في كتابه “دفتر سراييفو”، لأرملة بوسنية بالغة من السن 51 سنة، عاشت مذبحة فيشغارد ذات مايو/أيار 1992، تقول: “حاول بعض النساء الانتحار بالقفز من الغرف التي احتجزهم فيها مسلحو النسور البيض (ميليشيات صرب البوسنة) بهدف اغتصابهن”، ومنهن “جارة لي وابنتها البالغة من العمر 17 سنة، جرى اغتصابها وذبحها وإلقاء جثَّتها في النهر”.

ولا يقتصر ارتكاب هذه الجرائم فقط على قوات ميليزوفيتش وغراديتش، من الصرب وصرب البوسنة. بل هناك عناصر من القبعات الزرق الأممية، اغتصبوا بوسنيات، بحسب ما تثبته تقارير منظَّمة العفو الدولية.

الاغتصاب بوصفه أداة إبادة جماعيَّة

يتفق تقرير المحكمة الدولية وتقارير منظمة العفو الدولية، على أن النساء المسلمات في البوسنة كن الأكثر عرضة لهذه الجرائم، ومثلن النسبة الغالبة من المحتجزات داخل مراكز الاغتصاب تلك. فبعد الاجتياح الصربي للبوسنة، عزلت القوات الصربية النساء البوسنيات عن الرجال، واحتُجز كل جنس على حدة في مراكز اعتقال خاصة، لم تكن سوى البنايات الحكومية من مدارس ومستشفيات ومجمعات رياضية، حوَّلتها القوات إلى معتقلات جماعية. وفي حين كان الرجال يُعذَّبون ويُقتلون، كانت النساء يُترَكن لأغراض جنسية. وكانت النسوة المحتجَزات من فئات عمرية متعددة، منهن مَن لم تتعدَّ سن الثانية عشرة.

وبعد أن رفعت الحرب أوزارها، خلَّفت ما بين 20 و50 ألف ضحية اغتصاب، وآلاف الأطفال المتخلى عنهم، يصعب حصرهم في رقم لهذا السبب. بينما، وإلى الآن، الألم والمعاناة هي السمات الأكثر بروزاً لحياة أولئك النسوة، ولاعتبارات عديدة، في صمت تام.

صمت يوضحه المقال المذكور لموقع Balkan Insight، على لسان الناطق الرسمي لإحدى جمعيات الدفاع عن أولئك الضحايا، يعود لـ “حدة الصدمة التي تعرضت لها الضحية، كما لوضع الضحيَّة الاجتماعي والاقتصادي، كما للظرف الذي تمت فيه الصدمة والذي تعيش فيه الضحية”. فيما تقول آينا يوزيتش، في شهادتها لـ TRT عربي، إنه: “لسنوات طويلة بقيت أمي محكومة بعيش المأساة وهي تتكرر في مجتمع يلومها على الاستمرار في الحياة بعد ما وقع، ويرى فيها وصمة عار عليه”.

بالمقابل، يورد تقرير منظمة العفو الدوليَّة عن شاهدته، بأنه انتهى بها الأمر لتعاني من ألم في العمود الفقري من كثرة الاغتصاب والتعنيف المبرح، وأمراض نفسية لا تكفي التعويضات المقدمة من قبل الحكومة البوسنية سدادها، عاطلة عن العمل تعيش على الفتات في أوضاع مأساوية. وتحكي “الشاهدة 99” في وصف حالة الإنكار التي تواجهها بهن السلطات ببلادهن: “سنة 2011 كان من المفترض إقامة نصب تذكاري لمأساتنا أمام مجمع بارتيزانا الرياضي بفوتشا. وعندما ذهبنا هناك أوقفوا سياراتنا ومنعونا من النزول، وبعد ذلك طردونا من المكان!”.

هذا وتعرف العدالة في هذه القضية عراقيل جمة، إذ يقول تقرير منظمة العفو الدولية، إنه منذ 2004، لم يستمع القضاء البوسني إلا لـ1% من ضحايا الاغتصاب، ولم تعالج المحاكم البوسنية سوى 123 قضية في هذا الصدد، فضلاً عن طول مدة المحاكمات وضعف جذوتها، فالعديد من الضحايا لم يعشن ليشهدن رد اعتبار قضائي على ندرته. الشيء الذي يشيع وسطهن حالة انعدام ثقة.

TRT عربي

زر الذهاب إلى الأعلى