أخــبـار مـحـلـيـة

حلفاء اليوم أعداء الماضي.. تعرّف على تاريخ الخلافات الكبيرة بين القوميين الأتراك وحزب الشعب الجمهوري

تستعد تركيا لخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية مصيرية وحاسمة في تاريخ البلاد، غير أنها غير محسومة لأي طرف، والتي ستعقد في 14 مايو/أيار المقبل، بالتزامن مع سعيها للملمة جراح الزلزال الكبير الذي ضرب 11 ولاية في 6 فبراير/شباط الماضي.

الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي ترشح للفوز بولاية رئاسية ثانية، بمساندة من حزبه، العدالة والتنمية، والحركة القومية تحت لواء “تحالف الشعب”، وبدعم من عدد من الأحزاب الصغيرة الأخرى، يخوض إحدى أصعب وأحلك المعارك الانتخابية منذ تأسيس الحزب في 2001.

فأحزاب المعارضة بأطيافها المختلفة وتناقضاتها الإيديولوجية اجتمعت حول الطاولة السداسية بهدف واحد، إسقاط أردوغان من الحكم، والعودة إلى النظام البرلماني بدل الرئاسي.

وضمت الطاولة السداسية، حزب الشعب الجمهوري (علماني يساري) أكبر أحزاب المعارضة، والحزب الجيد (قومي)، وحزب السعادة (محافظ)، وحزب المستقبل (محافظ)، وحزب الديمقراطية والتقدم “الدواء” (لبيرالي/محافظ)، والحزب الديمقراطي (لبيرالي).

واتفقت الطاولة السداسية على ترشيح كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري لمقارعة أردوغان، على كرسي الرئاسة، لكن زعيمة الحزب الجيد، ميرال أكشنير، اعترضت على ترشيحه، وانسحبت من الطاولة السداسية، قبل أن تعود مجدداً وتوافق على ترشيحه.

نبذة عن الحركة القومية وحزب الشعب الجمهوري

وتخفي عودة أكشنير، إلى الطاولة السداسية للمعارضة، والقبول على مضض بترشح كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري (يسار وسط) لرئاسة الجمهورية، صراعاً إيديولوجياً عميقاً له جذوره التاريخية.

إذ من الصعب على قاعدة الحزب الجيد، منح أصواتها بالكامل لكليجدار أوغلو، بالنظر لخلفيته القومية والطائفية والإيديولوجية، وصراع مرير مع التيار اليساري الذي يمثله حزب الشعب الجمهوري.

فالطاولة السداسية، التي يعود تشكيلها إلى تحالف أكبر حزبين معارضين (الشعب الجمهوري، والجيد)، تحت اسم “تحالف الأمة”، في 2018، ثم انضم إليهما في 2022، حزب السعادة (إسلامي) برئاسة تمل كرامولا أوغلو، والذي أسسه رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان.

وتوسع التحالف ليشمل كلاً من حزب المستقبل، برئاسة رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، وحزب الديمقراطية والتقدم (ديفا)، برئاسة وزير المالية، نائب رئيس الوزراء السابق علي بابا جان، المنشقان عن حزب العدالة والتنمية الحاكم.

ناهيك عن “الحزب الديمقراطي”، برئاسة غول تكين أويصال، والذي رغم تواضع حجمه، وعدم تمثيله في البرلمان، فإنه يملك تاريخاً عريقاً منذ تأسيسه على يد عدنان مندريس، الذي كان أول معارض يصل إلى الحكم (1950-1960).

ويهدف تحالف الطاولة السداسية إلى هزيمة الرئيس رجب طيب أردوغان، وحزبه العدالة والتنمية، في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة المقررة في 14 مايو/أيار المقبل، والذي لم يسبق له أن خسر أي انتخابات منذ 2002.

حليف أم تابع؟

يهدد دعم أكشنير، لترشح كليجدار أوغلو، بفقدانها جزءاً من قاعدتها الشعبية لصالح غريمها في “الحركة القومية” دولت بهتشلي، حليف الرئيس رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية، في “تحالف الجمهور”.

بل إن الحزب الجيد، مهدد بخسارة جزء آخر من قاعدته الشعبية لصالح حزب الشعب الجمهوري، في الانتخابات البرلمانية، بما أنه سيشارك في الحملة الانتخابية الداعمة لترشح كليجدار أوغلو، للرئاسيات، ما يرجح فقدانه عدداً من المقاعد.

فالحزب الجيد، أسسته أكشنير، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، بعد فصلها من الحركة القومية في سبتمبر/أيلول 2016، إثر فشلها في ترؤسه بدلاً من دولت بهتشلي، الذي يقوده منذ تسعينيات القرن الماضي.

وكانت أكشنير، انضمت إلى الحركة القومية في 2001، قادمة من حزب العدالة والتنمية، الذي انشقت عنه بعد أشهر من تأسيسه في نفس العام، بعدما كانت عضوا نشطا في حزب الطريق القويم، الذي كانت ترأسه تانسو تشيلر، رئيسة الوزراء السابقة.

ورغم حداثة تأسيسه، تمكن الحزب الجيد من دخول البرلمان ضمن تحالف الأمة وحصد 43 نائباً من إجمالي 600، وحصل على 10% من الأصوات، في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 2018.

بينما لم تحصل زعيمة الحزب أكشنير، سوى على نحو 7.3% من الأصوات في الرئاسيات المتزامنة، أي أقل من نتائج حزبها، ما دفعها للاستقالة قبل أن تتراجع عنها.

واللافت أن الحزب الجيد، لعب دور “رمانة الميزان” في تغليب كفة حزب الشعب الجمهوري، للفوز ببلديات كبرى على غرار إسطنبول التي فاز بها أكرم إمام أوغلو، والعاصمة أنقرة، التي راحت لمنصور يافاش.

لكن الحزب الجيد، الذي صنع نصراً غير مسبوق لحزب الشعب الجمهوري، منذ 2002، لم يفز بأي بلدية كبرى في الانتخابات المحلية التي جرت في 2019، واكتفى بنحو 9 بلديات صغيرة فقط من إجمالي 1351.

وهذا ما يفسر رفض أكشنير دعم كليجدار أوغلو، للترشح لرئاسيات 2023، وتفضيلها ترشيح إمام أوغلو أو يفاش، التي ترى أن لها فضلاً في فوزهما برئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة، فضلاً عن أن نتائج سبر الآراء تمنحهما الأفضلية، مقارنة برئيس حزب الشعب الجمهوري.

وبعد الحملة العنيفة التي شنتها ضدها وسائل إعلام موالية لحزب الشعب الجمهوري، وتوسط كل من رئيسي بلديتي إسطنبول وأنقرة، أقنعاها بدعم كليجدار أوغلو، ووافقت بشرط أن يعينهما نائبين للرئيس إن فاز في الانتخابات.

  لم يكن التحالف الأول

ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يتحالف فيها القوميون مع حزب الشعب الجمهوري، إلا أنها أول مرة يدعم فيها حزب قومي (الجيد) رئيساً للحزب الجمهوري.

ففي رئاسيات 2014، تحالفت الحركة القومية مع حزب الشعب الجمهوري، ورشحا أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي، لمنافسة أردوغان.

وكان إحسان أوغلو، شخصية يمينية محافظة، واضطر والده للهجرة إلى مصر هرباً من ظلم حزب الشعب الجمهوري، وانتخب نائباً في 2015، عن الحركة القومية.

فأكشنير، لم تكن تمانع من ترشيح شخصية من حزب الشعب الجمهوري، بشرط ألا يكون كليجدار أوغلو، زعيم الحزب، ما يجعل من الحزب الجيد أشبه بتابع وليس حليفاً.

إذاً لا يمكن لقاعدة الحزب الجيد، خاصة من الفئات التي عاشت مرحلة السبعينيات، أو التيار المتشدد في الحزب، تقبل فكرة التصويت لصالح شخصية يسارية من الطائفة العلوية ومن أصول إيرانية كردية.

ووصل الصراع بين أتباع التيارين المتصارعين، إلى حد وقوع مواجهات عنيفة، بل دامية بين القوميين واليساريين في فترة السبعينيات، انتهت بانقلاب عسكري في 12 سبتمبر/أيلول 1980، في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وغزو الأخير لأفغانستان في 1979، ونجاح الثورة الإسلامية بإيران في نفس العام.

ولفهم طبيعة الصراع بين القوميين واليساريين، وبصورة أدق بين الحزب الجيد، وحزب الشعب الجمهوري لا بد من الرجوع إلى خلفياتهما السياسية والإيديولوجية.

  انشقاق القوميين 

يمثل حزب الشعب الجمهوري القوة السياسية التي قادت البلاد منذ تأسيس تركيا الحديثة في 1923، على يد مصطفى كمال أتاتورك، وهو ما جعل الحزب يملك إرثاً تاريخياً استقطب به فئات من أنصار مؤسس الدولة الحديثة، الذي هو نفسه مؤسس الحزب.

ويرى الحزب نفسه وريثاً لقيم الجمهورية والعلمانية، ويصف نفسه بأنه “حزب ديمقراطي اجتماعي حديث، مخلص للمبادئ والقيم المؤسسة للجمهورية التركية”.

إذ بقي حزب الشعب الجمهوري، يحكم البلاد إلى غاية 1950 عندما خسر الانتخابات أمام الحزب الديمقراطي، الذي أسسه عدنان مندريس، بعد إلغاء نظام الحزب الواحد في 1945.

مندريس، الذي انشق عن حزب الشعب الجمهوري بعد فتح المجال للتعددية الحزبية، أصبح رئيساً للوزراء في 1950، واختار نهجاً أكثر ليبرالية بعيداً عن التوجه اليساري لحزبه السابق، وضم تركيا إلى حلف الشمال الأطلسي (ناتو) في 28 فبراير/شباط 1952، وخفف حدة بعض الإجراءات التي رآها البعض مغالاة علمانية، مثل إلغاء حظر رفع الأذان باللغة العربية وإعادة مادة التربية الدينية إلى المناهج الدراسية.

واستغل عدد من الضباط الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي شهدتها البلاد نهاية الخمسينيات لقيادة انقلاب عسكري في 27 مايو/أيار 1960، وأطاحوا بحكم مندريس، وتلا بيان الانقلاب العقيد ألب أرسلان توركش، أحد رموز التيار القومي.

وحكم على مندريس بالإعدام شنقاً، ونفذ الحكم في 17 سبتمبر 1961، لكنه بقي رمزاً للحرية في تركيا، باعتباره أول رئيس وزراء ينتخب ديمقراطياً.

وطيلة العقود التالية تقلب الحزب الجمهوري بين زعامة الحكومة أو زعامة المعارضة إلى فترة التسعينيات التي غاب فيها عن المرتبتين الأولى والثانية، قبل أن يعود مجدداً إلى الواجهة في 2002، لتزعم المعارضة مع صعود حزب العدالة والتنمية للحكم.

والمثير للاهتمام أن حزب الشعب الجمهوري بتبنيه الفكر اليساري تمكن من استقطاب فئات واسعة من الطائفة العلوية وجزء من الأكراد، الأمر الذي أثار حفيظة التيار القومي داخل الحزب.

ويوضح مركز البيان للدراسات والتخطيط، سبب تأييد معظم العلويين لحزب الشعب الجمهوري، يكمن في تعرضهم للاضطهاد لعدة قرون.

ورغم ترحيب العلويين بإنهاء الخلافة العثمانية وإقامة دولة علمانية، فإن القوميين الأتراك الذين حكموا البلاد “لم يعترفوا أيضاً بالهوية العلوية، وحصروا التعاليم الإسلامية بالمذهب الحنفي”.

وتبنى معظم العلويين، الفكر اليساري في مواجهة القوميين والإسلاميين، وأيد كثير منهم حزب الشعب الجمهوري، الذي يرى أن صراعه ضد “الإسلام السياسي” أهم من أي خلافات مع العلويين أو ضد الانفصاليين الأكراد، وهو ما لم يتقبله القوميون داخل الحزب.

تاريخ الخلافات بينهما

وكان ذلك أحد أسباب انشقاق عناصر قومية من حزب الشعب الجمهوري، بقيادة العقيد ألب أرسلان تركش، الضابط الذي تلا بيان انقلاب 1960، بعد اتهامهم قيادة الحزب بالانحراف عن مبادئه التي أسس من أجلها.

وأسس توركش، مع أصدقائه المنشقين عن حزب الشعب الجمهوري، حزباً جديداً تحت اسم “حزب الأمة الريفي الجمهوري” في عام 1958، الذي تعود جذوره إلى حزب الأمة الذي أسسه في 1948، الماريشال فوزي جقماق، وتحول اسم الحزب في عام 1969 إلى “حزب الحركة القومية”.

وفي فترة الستينيات والسبعينيات، اشتعل التنافس السياسي بين مختلف التيارات الفكرية، ومع ازدياد حدة الصراع بين التيارات اليسارية والقومية وقعت أحداث عنف دامية بين الطرفين.

واجهت تركيا فترة حالكة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، بسبب الاشتباكات بين التنظيمات اليسارية والقومية سقط خلالها نحو 5 آلاف قتيل، جلهم من اليساريين واليمنيين، بمعدل 10 اغتيالات يومياً، شبهها البعض بحرب أهلية مصغرة.

فخلال محاكمة تنظيم “المسار الثوري” اليساري، في محكمة أنقرة العسكرية، سجل المتهمون 5 آلاف و388 عملية اغتيال سياسي قبل الانقلاب العسكري في 1980، ومن بين الضحايا 1296 يمينياً و2109 يساريين.

ففي عام 1978 وحده، وقع 3 آلاف و319 هجوماً، قُتل فيه 831 شخصاً وجُرح 3 آلاف و121 شخصاً، وفق مجلة “بريتش زورتشلايت”.

ووقعت عدة أحداث دامية بين التنظيمات اليسارية واليمينية في محافظات مختلفة من البلاد، وأشهرها منطقة أورتاجا في محافظة موغلا عام 1966، ومنطقة البستان في محافظة كهرمان مرعش عام 1967، ومنطقة هيكيمهان في محافظة مالاطيا عام 1968، ومنطقة كيريكان في محافظة هاتاي عام 1971، وفي مالطيا وسيواس وكهرمان مرعش عام 1978، وجوروم 1980.

واستغل الجيش الاضطراب الأمني في البلاد، وعدم استقرار الحكومات الائتلافية للقيام بانقلاب في سبتمبر/أيلول 1980.

فالحركة القومية، وُلدت من رحم حزب الشعب الجمهوري، وتأسست على يد ضباط سابقين، متشبعين بالقومية التركية المعتزة بتاريخ البلاد العثماني والمذهب الحنفي للدولة، والتي لديها مواقف متشددة من الانفصاليين الأكراد ومن العلويين.

وهذا جوهر الخلاف بين القوميين وحزب الشعب الجمهوري، الذي لا يرى بأساً في التحالف مع الأكراد والانفتاح على العلويين، بل إن رئيس الحزب كمال كليجدار أوغلو، ينتمي للطائفة العلوية، التي تصوت بكثافة لصالح مرشحي الحزب، وسبق أن خاطبه أردوغان قائلاً “أنت علوي، لماذا لا تعلن للناس عقيدتك؟”.

وظهر الخلاف واضحاً بين زعيمة الحزب “الجيد” القومي، وكليجدار أوغلو، حيث رفضت أكشنير، أي تفاوض لأحزاب الطاولة السداسية مع حزب الشعوب الديمقراطي، المؤيد للأكراد، الذي يواجه خطر الحظر، أو حتى مجرد استعراض شروطه.

بينما يسعى كليجدار أوغلو، للتواصل مع حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يمثل ما بين 10 إلى 12% من الكتلة التصويتية، لدعم ترشحه في مواجهة الرئيس أردوغان.

وستكون مهمة زعيم الشعب الجمهوري صعبة إن لم تكن مستحيلة في جمع القوميين والأكراد معاً خلف ترشحه للرئاسة، لأنه قد يخسر تأييد الناخبين القوميين، بل إن أكشنير ذاتها قد تفقد زعامة التيار القومي لصالح دولت بهتشلي، زعيم الحركة القومية، في الانتخابات البرلمانية المتزامنة.

فالوقت ليس في صالح المعارضة، والتحالف بين حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد مهدد بالتفكك في أي لحظة، خاصة إذا دخل حزب الشعوب الديمقراطي معادلة الصراع.

زر الذهاب إلى الأعلى