أخــبـار مـحـلـيـة

“زنغزور”.. الممر الذي سيوحّد العالم التركي

عاد الحديث مجددًا عن ممر زنغزور الواقع بين تركيا وأذربيجان مرورًا بأرمينيا، بعد أن ركز عليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال زيارته الأخيرة لأذربيجان، فقد أكد أن الحل السريع لمسألة ممر زنغزور، سيعزز العلاقات بين أنقرة وباكو، موضحًا أنه مع افتتاح الممر وإنشاء مشاريع الطرق البرية أو السكك الحديدية فإن الروابط التركية ستصبح أقوى بكثير، والعلاقات بين تركيا وأذربيجان ستتعزز أكثر، بما يخدم الأمة التركية.

لكن لماذا كل هذا التركيز على هذا الممر بالذات؟ وفيما تكمن أهمية هذا الممر تاريخيًا وسياسيًا واقتصاديًا؟ وماذا يمثل للأتراك؟ وما مساره؟ وهل هناك أطراف تقف عائقًا أمام استكمال عمله وبدء نشاطه؟

ممر “زنغزور”

قبل الحديث عن أهمية هذا الممر في تعزيز العلاقات الاقتصادية واللوجستية والسياسية للعالم التركي، وسبب التركيز التركي الأذربيجاني الكبير على إنجاحه مهما كانت العراقيل التي تعوق ذلك، دعونا في البداية نتعرف عليه وعلى المنطقة التي سيُقام فيها.

قديمًا، كانت “زَنغِزور” منطقة أذربيجانية يسكنها مسلمون من العرقية التركية، قبل أن يضمها الاتحاد السوفيتي إلى أرمينيا في عشرينيات القرن الماضي، وهي إلى الآن تابعة لأرمينيا، ما تسبب في فقدان أذربيجان اتصالها مع مقاطعة نَخجِوان الأذرية المتمتعة بالحكم الذاتي، ومع تركيا من بعدها.

حرم هذا الأمر، أذربيجان من ارتباطها البري المباشر الوحيد بنَخجِوان، إذ كان على الأذربيجانيين الذين يريدون السفر بين البر الرئيسي ومنطقة الحكم الذاتي أن يتوجهوا أولًا إلى إيران المجاورة، ومن ثمّ يتوجهون إلى نَخجِوان.

في مسعى منها، للنفاد إلى العالم التركي الكبير مترامي الأطراف في وسط آسيا، ترغب باكو في إقامة ممر عبر زنغزور إلى نَخجِوان عبر الأراضي الأرمينية، لكن هذا المقترح بقي في الدرج لسنوات، إلى أن بدأ يتحول إلى حقيقة شيئًا فشيئًا بعد نهاية حرب قره باغ الثانية عام 2020.

سمحت اتفاقية وقف إطلاق النار الثلاثية الموقعة في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بين أرمينيا وأذربيجان والقوة الإقليمية – روسيا – بالانفتاح على خطوط السكك الحديدية والطرق التي ستعبر أرمينيا.

أعاد التفوق العسكري الذي حققته أذربيجان على أرمينيا سنة 2020، فتح الباب أمام إعادة الحديث عن ممر زنغزور

سيوفر إنشاء ممر زنغزور، لأذربيجان، الوصول الآمن والسريع إلى منطقة نَخجِوان، خاصة أن الحدود بين أذربيجان وأرمينيا ما زالت مغلقة، وهذا يستلزم من القوافل التجارية الأذربيجانية العبور من خلال إيران للوصول إلى نَخجِوان ومن ثم الخروج منها.

هذا الممر الذي سيكون في مقاطعة سيونيك، الواقعة في أقصى جنوب أرمينيا، عبارة عن خط سكك حديدية يرتبط بخطوط السكك الحديدية الواقعة في أذربيجان من جهة ومنطقة نَخجِوان ذات الحكم الذاتي والتابعة لأذربيجان من جهة أخرى، ومن بعدها تركيا وصولًا إلى مدينة “قارس”.

وسبق أن قامت موسكو، خلال الحقبة السوفيتية، ببناء خطين للسكك الحديدية لربط نَخجِوان بالأراضي الأذربيجانية الرئيسية، لكن هذه السكك الحديدية أصبحت غير صالحة للاستعمال خلال حرب قره باغ الأولى، التي بدأت عام 1992.

ونَخجِوان هي منطقة تتمتع بحكم ذاتي تقع بين أرمينيا وإيران وتركيا على الهضبة الواقعة جنوب منطقة القوقاز، وتعد من أكثر أجزاء الاتحاد السوفيتي السابق عزلة، ويعد هذا الإقليم التابع لأذربيجان ويفصله جغرافيًا عنها قطاع أرميني، ويبلغ تعداد سكانه 450 ألف نسمة، أكبر إقليم حبيس مطوق بأراض أجنبية في العالم.

تعادل مساحة نَخجِوان تقريبًا مساحة جزيرة بالي، وتتميز بأنها مزيج فريد بين العمارة السوفيتية والمساجد ذات القباب الذهبية والجبال الحمراء القاحلة التي تقع بين البحر الأسود وبحر قزوين، وتحتضن مرقدًا ضخمًا، يقال إن النبي نوح دفن فيه.

يُذكر أن نَخجِوان كانت أول جزء يعلن استقلاله عن الاتحاد السوفيتي قبيل انهياره في ديسمبر/كانون الأول 1991، وسارت على دربها ليتوانيا بعد شهرين، ثم انضمت إلى أذربيجان بعد أسبوعين من إعلان الاستقلال.

وأعاد التفوق العسكري الذي حققته أذربيجان على أرمينيا سنة 2020، فتح الباب أمام إعادة الحديث عن ممر زنغزور، حتى تربط أذربيجان كل أراضيها بعضها البعض، وتنفتح على باقي أراضي الأمة التركية وتحقق الفائدة التي كانت تنتظرها.

إصرار أذري ورفض أرميني

تصر أذربيجان على تنفيذ هذا المشروع الكبير، حتى إن الرئيس إلهام علييف سبق أن هدد بوضع بلاده يدها على أراضي ممر “زَنغِزور” بالقوة في حال لم تُعطِ أرمينيا لباكو ما تريده الأخيرة، فلهذا الممر أهمية كبرى لأذربيجان.

تقول أذربيجان إنه يجب أن تُسمح للمركبات الأذربيجانية بالمرور عبر الأراضي الأرمينية دون أن تخضع لفحوصات جمركية من الجانب الأرميني، تمامًا كما تسمح هي بمرور المركبات الأرمينية عبر ممر “لاتشين” (لاجين)، الذي يربط أرمينيا بإقليم “ناغورني قره باغ” ويمُر عبر الأراضي الأذربيجانية.

رغم تفوقها العسكري في حربها الأخيرة التي أطلقها جيشها لتحرير أراضي البلاد المحتلة في إقليم “قره باغ” في أكتوبر/تشرين الأول 2020، فإن باكو اختارت الحل السلمي وجنحت إلى المفاوضات علها تصل إلى اتفاق مع “يريفان”.

من شأن هذا الممر إن تم فتحه، أن يجعل أذربيجان مركزًا لوجستيًا مهمًا في منطقة القوقاز، ويجعل من باكو لاعبًا أساسيًا في التجارة العالمية التي تمر عبر الأراضي الأوروآسيوية، ونقطة التقاء مهمة على طول طريق الحرير الصيني المنطلق من وسط الصين باتجاه أوروبا.

لن يقوم الممر بربط نَخجِوان بالبر الرئيسي لأذربيجان فقط، بل سيعزز أيضًا الطريق غير المنقطع عبر الدول التركية

كما يمكن لهذا الممر أن يساهم في تطور اقتصاد أرمينيا، مع ذلك تصر سلطات هذا البلد على رفض فتح هذا الممر بالصيغة التي اقترحتها أذربيجان، إذ ترفض أن يُفتح الممر دون أن تسيطر عليه، ذلك أنها تخشى أن تفقد سيطرتها على حدودها الجنوبية، التي تُعد المنفذ الوحيد إلى إيران.

كما تخشى أرمينيا أن تفقد السيطرة على الجزء الوحيد الذي يربطها بدولة صديقة، فباقي الحدود مع دول غير صديقة مُقرَّبة من حلف الناتو مثل أذربيجان وجورجيا، أو عضوة فيه بالفعل مثل تركيا، ما يهدد أمنها القومي، وفق تصورها.

وسبق أن اقترح رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، إنشاء ثلاث نقاط عبور حدودية جديدة تكون عند المواقع الآتية: في قرية سوتْك الواقعة على حدود منطقة كَلْبَجَر الأذربيجانية في الشمال، وفي كاراهونج الأرمينية الواقعة على حدود منطقة قُبادلي الأذربيجانية في الجنوب، وكذلك في يراسخ الواقعة على حدود نَخجِوان الأذربيجانية الحبيسة.

وفق باشينيان، فإن هذه المقترحات تستجيب لاتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020، الذي نص على أن “تضمن أرمينيا تأمين خطوط النقل المارة عبر أراضيها بين نَخجِوان وبقية أذربيجان”، إذ ستسمح هذه المعابر الحدودية الجديدة للمركبات الأذربيجانية بالسفر بين البر الرئيسي للبلاد ونَخجِوان على الجهة الأخرى من الممر، وفق قوله.

“العالم التركي”

لن يقوم هذا الممر بربط نَخجِوان بالبر الرئيسي لأذربيجان فقط، بل سيعزز أيضًا الطريق غير المنقطع عبر الدول التركية، وترى كل من أذربيجان وتركيا – اللتين تشتركان في الجذور التركية المشتركة – في هذا الممر وسيلة للتواصل مع الدول التركية الأخرى بما في ذلك كازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان.

نتيجة ذلك، أطلقت تركيا على هذا الممر الذي يتم التخطيط لإنشائه اسم “العالم التركي”، إذ سيكون حلقة الوصل بين أقاليم القوميات التركية، وسبق أن قال الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف: “ممر زنغازور الذي سيربط تركيا وأذربيجان عبر أراضي أرمينيا سيوحّد العالم التركي”.

وترى أنقرة أن هذا الممر سيكون معبرًا آمنًا وسريعًا لربط ما يسمى “منظمة الدول التركية”، وربط تركيا وآسيا الوسطى عبر أذربيجان وبحر قزوين، فإذا تم تنفيذه بشكل فعال، فإن الطريق الذي سيمر عبر بحر قزوين وتركيا بين آسيا الوسطى وأوروبا سيكون موجودًا مع وصول غير مقيد.

 

تظهر هذه الخريطة الممر الرابط بين باكو وقارس التركية
 تظهر هذه الخريطة الممر الرابط بين باكو وقارس التركية

 

مع افتتاح ممر زنغزور، سيتم تعزيز الروابط الاقتصادية واللوجستية والسياسية للدول التركية، وسيكون لهذا الممر القدرة على أن يكون النجم الصاعد للعالم التركي، وسيساهم بدرجة كبيرة في إنجاح خطط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لربط العالم التركي ببعضه.

وتضم خريطة “العالم التركي” من المحيط المتجمد الشمالي إلى البلقان 7 دول هي: تركيا وأذربيجان وجمهورية شمال قبرص التركية (غير معترف بها) وتركمانستان وأوزبكستان وقرغيزستان وكازاخستان، إضافة إلى نحو 20 كيانًا فيدراليًا داخل روسيا تمثل نحو ثلث مساحتها، فضلًا عن إقليم تركستان الشرقية في الصين وأقليات في القرم (التتار) ودول البلقان (أتراك البلقان) وسوريا والعراق (التركمان).

تتكلم هذه الدول والأقاليم، التركية ولهجاتها وتعتمدها لغة رسمية لها، وتمتلك لغةً وتاريخًا وحضارةً مشتركةً، ويبلغ مجموع تعداد الدول الناطقة بالتركية مجتمعةً ما يفوق 300 مليون نسمة، مشكلين قوة كبيرة.

ضمن جهود توحيد “العالم التركي”، تأسست منظمة الدول التركية (المجلس التركي سابقًا) في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2009، وتضم تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان، فيما تحمل كل من المجر وتركمانستان وشمال قبرص التركية صفة عضو مراقب فيها.

ترى تركيا في ممر زنغزور وسيلة مهمة لاستكمال تشكيل “العالم التركي” الذي تطمح إليه منذ بداية تسعينيات القرن الماضي

يتمثل الهدف الرئيس للمنظمة، في تأسيس وتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في قضايا السياسة الخارجية والاقتصاد والمواصلات والجمارك والسياحة والتعليم والإعلام والرياضة والشباب، كما تستهدف توسيع مجالات التعاون الدولي في العالم الإسلامي، وبين بلدان الشرق الأوسط والمنطقة الأوراسية، وترسيخ السلام والاستقرار فيها.

ويبلغ حجم التجارة بين دول المجلس نحو 7 مليارات دولار، ويأمل قادة المجموعة في تطوير هذا المبلغ، خاصة بعد تأسيس غرفة التجارة والصناعة سنة 2019 خلال اجتماع في العاصمة الكازاخية، فيما يستمر العمل على تأسيس “صندوق الاستثمار المشترك”.

وفي سنة 2021، تم اعتماد “رؤية العالم التركي 2040″، وذكر أردوغان حينها أنها ستعزز التنسيق بين الدول للانتقال من إزالة الحواجز التجارية إلى تنسيق السياسات الثقافية والشبابية والتعليمية، كما أنها تسمح بإنشاء ممرات جديدة عبر القارات من الصين إلى أوروبا، وفضاء معلومات مشترك.

حرص تركي على تشكيل “العالم التركي”

ترى تركيا في ممر زنغزور وسيلة مهمة لاستكمال تشكيل “العالم التركي” الذي تطمح إليه منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، فمع انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1991، وتراجع الدور الروسي في المنطقة، بدأت فكرة إحياء العالم التركي تدور بخلد القادة الأتراك، بعد أن أدار الرئيس كمال أتاتورك ظهره للقوميات التركية، مركزًا على بلاد الأناضول.

كانت تركيا أول دولة تعترف بالجمهوريات التركية التي نالت استقلالها مع انهيار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية عام 1991، وبعدها بسنة عُقدت القمة الأولى للدول المتحدثة بالتركية، ليبدأ التعاون بين تركيا وهذه الجمهوريات.

ساهمت العديد من المؤسسات مثل المنظمة الدولية للثقافة التركية (توركسوي) والأكاديمية التركية الدولية والألعاب الرياضية العالمية التركية ومسابقة الأغنية التركية (توركفيجن)، الشبيهة بمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) في استمرار تطور العلاقات بين الجمهوريات التركية.

ركزت أنقرة في تعاونها مع العواصم الشقيقة في البداية على مجال الثقافة وتعزيز مكانة اللغة التركية المشتركة والتاريخ والثقافة المشتركين للشعوب التركية، واعتمدت تركيا في ذلك على وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) ورئاسة أتراك المهجر والمجتمعات ذات القربى والمعهد الثقافي التركي “يونس أمره”.

وترى تركيا في ممر زنغزور، فرصة مهمة للتغلب على عقدة الجغرافيا التي وقفت لزمن طويل حائلًا بينها وبين تحقيق حلمها القديم الارتباط بالعالم التركي الفسيح الممتد منها شرقًا إلى أعماق القارة الآسيوية وصولًا إلى الصين.

رفض إيراني

سبق أن اتفقت تركيا وأذربيجان في ديسمبر/كانون الأول 2020، على إنشاء خط سكة حديد يربط بينهما عبر إقليم نَخجِوان، لكن هناك اتفاقًا مهمًا آخر تم في نفس اليوم ويقضي بتوصيل خط أنابيب غاز إلى هذا الإقليم والتخلي عن الغاز الإيراني الذي يعتمد عليه الإقليم منذ اتفاق 2004.

يتسبب هذا الممر بالقلق لإيران، فمن شأنه أن يفقد طهران سوقًا مهمةً لغازها، ما سيزيد من متاعب الاقتصاد الإيراني في ظل العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي.

أيضًا ستخسر إيران أسواقًا أخرى، فربط أذربيجان الغنية بالغاز والنفط مع تركيا بريًا، سيسمح لأذربيجان بتصدير غازها ونفطها إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وسبق أن صرح نائب وزير الطاقة الأذربيجاني النور سلطانوف، أن بلاده لديها احتياطات كافية من الغاز الطبيعي وبمقدورها تصدير المزيد منه إلى أوروبا.

وتصدر أذربيجان حاليًّا نحو 10 مليارات متر مكعب من الغاز إلى أوروبا، ويمكنها أن تصدر المزيد بفضل خط أنابيب الغاز “عبر أدرياتيك (تاب)” وخط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول (TANAP)، وكلاهما يعبر الأراضي التركية.

خسائر إيران الاقتصادية لا تتعلق بالغاز فقط، بل تتجاوز ذلك، فمن خلال هذا الممر ستتجاوز تركيا الطريق البري في إيران الذي يصلها إلى تركمانستان ودول آسيوية أخرى بشكل كامل، ما يعرض طهران لخسائر اقتصادية كبيرة.

يمكن أن يكون زنغزور، ممر سلام ويزيد التقارب ويضع حدًا للحروب التي ما فتئت تشهدها المنطقة

ترى إيران – التي تعتبر نفسها قوة إقليمية – أن إنشاء هذا الممر، يمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، إذ تخشى طهران، من أن تصبح باكو وجهة جذابة للأذريين الإيرانيين، وتعيش الأقلية الأذرية في شمال غرب إيران، وتتركز بشكل رئيسي في المناطق القريبة من أذربيجان التي تشترك معهم غالبية سكانها في الأصل العرقي واللغوي والثقافي.

مخاوف الإيرانيين لا تتوقف هنا، ففتح ممر زنغزور سيزيل ارتباط إيران مع حليفتها أرمينيا – ذات الأغلبية المسيحية – وبالتالي ستفقد ارتباطها بالبحر الأسود، ما سيمثل تغييرًا حدوديًا وتراجعًا جيوستراتيجيًا لطهران الراغبة في توسيع نفوذها في المنطقة.

عدم قدرتها على الوصول إلى البحر الأسود وروسيا، من شأنه أن يقلل من نفوذ إيران على منطقة القوقاز، ويفقدها قوتها لتكون دولة عبور على مبادرة الطريق الحزام الصينية التي تسمى أيضًا بمبادرة “طريق الحرير الجديد”.

فضلًا عن هذه الأسباب، يرجع رفض إيران الشديد لإقامة هذا المعبر إلى خشيتها من تنامي نفوذ تركيا في المنطقة وتزايد نشاط أنقرة وباكو، ما من شأنه أن يغيّر ميزان القوى في المنطقة على حسابها، وقد عاينت ذلك في الحرب الأرمنية الأذرية الأخيرة.

وتبذل إيران – التي تحافظ على علاقات دفاعية وثيقة مع أرمينيا – جهودًا كبيرةً لتكون قوة مهيمنة في المنطقة من خلال طرق مختلفة، مثل إقامة علاقات مع جهات فاعلة غير حكومية وفرض طموحات نووية، لذلك تعمل جاهدة لمنع إقامة الممر الجديد، ما دفع أردوغان للقول: “ممر زنغزور مشكلة مع إيران”.

ماذا عن روسيا؟

وفقًا للمادة 9 من اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في نوفمبر/تشرين الثاني بين أرمينيا وأذربيجان، ستحتفظ روسيا بالسيطرة على ممر زنغزور، ما يمنح روسيا اليد العليا في السيطرة على الممر، وما يمكنها من تولي موقع قوي في المنطقة.

من مصلحة الروس المضي قدمًا في فتح هذا الممر، لما سيحققه لها من فوائد اقتصادية كبيرة، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجهها وتواصل فرض العقوبات الغربية عليها، نتيجة الحرب التي شنتها ضد أوكرانيا في فبراير/شباط 2022.

ترى موسكو أن الممر الجديد إن تم فتحه، سيمكنها من تجاوز بعض العقوبات الغربية، وسيعطيها مجالًا إضافيًا للمناورة، إذ سيمنحها خط نقل جديد لبضائعها عبر أرمينيا للوصول إلى تركيا، ومن ثم إعادة تصديرها إلى دول العالم.

رفض إيران وأرمينيا لهذا الممر، لا يعني عدم وجود أي فائدة للدولتين منه

من مصلحة روسيا، فتح هذا الممر الجديد خاصة بعد أن قُطِعَت جميع الخطوط الجوية والبرية والبحرية بين روسيا وأوروبا، بسبب الحرب في أوكرانيا، ما أثر على الاقتصاد الروسي الذي يعاني قبل ذلك من مشاكل كثيرة.

رفض إيران وأرمينيا لهذا الممر، لا يعني عدم وجود أي فائدة للدولتين منه، فكل الجهات الفاعلة في هذه المسألة لها مصالح مختلفة في ممر زنغزور، فافتتاحه سيسهّل على جميع دول المنطقة التواصل مع المناطق الأخرى، كما أنه سيعزز خطوط الإمداد في “أوراسيا”.

فضلًا عن ذلك، سيكون فرصة لاستبدال التوترات بين بلدان المنطقة بعلاقات اقتصادية جديدة وقوية، بالإضافة إلى تعزيز الازدهار مع تعزيز العلاقات في التجارة واللوجستيات، ما سينعكس إيجابيًا على اقتصاد دول المنطقة ككل.

يمكن أن يكون زنغزور، ممر سلام ويزيد التقارب ويضع حدًا للحروب التي ما فتئت تشهدها المنطقة، وأن يحفز التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة جميعًا، لكن يجب في البداية ترك الحسابات الضيقة جانبًا والنظر إلى النقاط الإيجابية العديدة للملف.

زر الذهاب إلى الأعلى