أخــبـار مـحـلـيـة

سوريا كادت تشعل حروبهم القديمة.. أبرز المحطات في العلاقة المركبة بين إيران وتركيا وروسيا

جاء عقدُ “القمة التركية الروسية الإيرانية” في طهران في ظروف دولية استثنائية يبدو فيها العالم منقسماً بطريقة أسوأ من فترة الحرب الباردة، ولكن القمة تكشف عن طبيعة العلاقة شديدة التعقيد التي تربط الدول الثلاث، والتي جمعت منذ قرون بين العداء الشديد وتشابه الظروف والتحديات في الوقت ذاته.

وخلال الأزمة السورية خاصة، بلغت العلاقة بين الدول الثلاث درجة عالية من التعقيد؛ حيث وصلت إلى حالة التنافس الضاري الذي تراوح بين الاقتراب بين حافة الحرب تارةً والتعاون المرن تارةً أخرى. 

وأسهمت الديناميات الغريبة لهذه العلاقة المركبة في وضع بعض أطر الاتفاقات والتفاهمات بعد أن سكتت أصوات المدافع بين حلفاء الدول الثلاث، وأدت هذه الاتفاقات إلى ترتيبات دقيقة وشديدة الهشاشة بين الدول الثلاث وحلفائها على الأرض السورية.

وفي الوقت الحالي تواصل الدول الثلاث إدارة علاقاتها المعقدة بنفس الطريقة، فما زال التنافس قائماً بين البلدان الثلاثة، وتركيا أقرب للموقف الغربي والأوكراني في الحرب الأوكرانية، ولكن ما زالت لديها علاقة وثيقة مع روسيا، وتكاد تمثل منفذ الوساطة الوحيد في الأزمة، بينما إيران أقرب لموقف روسيا.

وهناك إشكاليات إيرانية- تركية متعددة؛ بدءاً من سوريا وصولاً للاتهامات الإسرائيلية لطهران باستهداف السياح الإسرائيليين في تركيا، ولكن رغم ذلك يواصل البلدان التعاون في مجالات عدة، في مقدمتها الاقتصاد، ويعلنان رغبتهما في تعزيزه.

إيران تشيَّعت عناداً في الدولة العثمانية

اتسمت العلاقة بين الدولة العثمانية التي تمثل سليلة الدولة التركية الحديثة وبين الدولة الصفوية بالعداء الشديد، ويمكن تفهُّم مقدار هذا العداء، من أن هناك بين المؤرخين من يرى أن الدولة الصفوية اعتنقت المذهب الشيعي وفرضته قسراً على أهل إيران عناداً مع العثمانيين، ولكي تكون إيران مختلفة عنهم.

والدولة الصفوية نفسها أسستها الطرق الصوفية التي انحدر أغلب أفرادها من القبائل التركية في شمال غرب إيران، وجعل هذا هناك تداخلاً بين الصفويين وبين العثمانيين، فهذا الأصل المتقارب جعل كل طرف يرى في الآخر منافساً.

وكانت سيطرة الصفويين على العراق، ومحاولتهم نشر التشيع في الأناضول واستقطاب بعض قبائلها في القرن السادس عشر دافعاً للعثمانيين ليوجهوا أنظارهم من أوروبا إلى آسيا، وأن يتقدموا بقواتهم المتفوقة بأسلحتها النيرانية ليهزموا الصفويين في معركة غالديران الشهيرة عام 1514، ويدخلوا عاصمتهم تبريز، ولكن رغم سيطرة العثمانيين على معظم العالم العربي وأجزاء واسعة من جنوب شرق البلقان ووسط وشرق أوروبا، فإنهم لم يستطيعوا السيطرة على إيران نتيجة الجغرافيا الوعرة وضخامة مساحة البلاد والبيئة العدائية.

واستمر الصراع سجالاً بين الإمبراطوريتين لقرون، وكان متركزاً بشكل كبير في العراق والقوقاز، وكان الصفويون يحاولون دوماً التنسيق مع القوى الغربية ضد العثمانيين، وبينما تفوقت الدولة العثمانية في كثير من مراحل الصراع، شكَّلت فترة قيادة القائد العسكري التركماني نادر شاه الأفشاري لإيران قفزة هائلة للبلاد أمام خصومها مثل الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية، ولكن بعدها تراجعت أهمية إيران العسكرية والاقتصادية.

القمة التركية الروسية الإيرانية
القمة التركية الروسية الإيرانية/الأناضول

أصبحت الدولة الكاجارية هي الحاكمة في إيران بعد نادر شاه، ومع استمرار تدهور الإمبراطوريتين وتزايد المطامع الغربية تراجع التنافس بينهما واستقرت الحدود، وبدا أن هموم بلدان شعوب الشرق من عرب وترك وإيران مشتركة أكثر منها متضاربة.

وتأثرت إيران بالمحاولات الإصلاحية التي شهدتها مصر والدولة العثمانية خلال القرن التاسع، ولكن خلال الحرب العالمية الأولى حاول العثمانيون دخول إيران التي كانت خاضعة للنفوذين الروسي والبريطاني، معتمدين على تعاطف الشعوب التركية في البلاد والذين يمثلون نحو ربع سكان إيران، ولكن لم يحققوا نجاحاً يُذكر.

وبعد حروب الاستقلال، نجحت تركيا في بناء دولة قوية نسبياً، وظلت على الحياد في الحرب العالمية الثانية، بينما خضعت إيران للسيطرة البريطانية السوفييتية، وخلال الحرب الباردة كان موقف البلدين متقارباً إلى حين قيام الثورة الإسلامية في إيران، ولكن بصفة خاصة لم يحدث انهيار في علاقات البلدين بعد قيامها.

تحسَّنت العلاقات التركية- الإيرانية بشكل كبير بعد تولِّي حكومة حزب العدالة والتنمية الحكم في البلاد في بداية الألفية، سواء بحكم توجهاتها الإسلامية في وقت لم يكن فيه الصراع السني- الشيعي موجوداً، أو بحكم سعيها لتصفير المشاكل مع الجيران، وكان أوضح مظاهر هذا التحسن العرض الذي قدمته تركيا مع البرازيل 2010 لمعالجة أزمة الملف النووي الإيراني (قبل التوصل للاتفاق النووي الحالي)، عبر استضافة جزء من اليورانيوم الإيراني المخصب في إطار توفير ضمانات لاتفاق مقترح، وكان ذلك مؤشراً على ثقة الإيرانيين الكبيرة في الأتراك في ذلك الوقت.

روسيا وتركيا.. صراع على وراثة الدولة البيزنطية

 أما روسيا وتركيا فلديهما سجل طويل من الحروب والتنافس، منذ القرن السادس عشر. 

فمنذ نشأة الدولة العثمانية، كانت بمثابة الوريثة الإسلامية للدولة البيزنطية؛ حيث كان أغلب رعاياها من الأرثوذكس، وأصبح السلطان محمد الفاتح صديقاً لبطريرك القسطنطينية بعد دخوله لها عام 1453، بينما اعتبرت روسيا، وهي ما زالت دولةً شبه مجهولة، نفسها الوريثة الأرثوذكسية للإمبراطورية البيزنطية بعد فتح القسطنطينية، من خلال زواج دوق موسكو في القرن الخامس عشر من أميرة بيزنطية بترتيب من البابا بعد فتح الأتراك للقسطنطينية. 

وكان من أسباب العداء أن روسيا توسعت في الأغلب على حساب مناطق المسلمين التتار (التار أبناء عمومة الأتراك)، بينما توسعت الدولة العثمانية في أوروبا في الأغلب على حساب الشعوب الأرثوذكسية، كثير منها من العرق السلافي مثل روسيا.

وفي القرن السادس عشر نشبت أول حروب البلدين، وكانت الدولة العثمانية أقوى عسكرياً بكثير، حيث كانت روسيا ما زالت دولة أقرب للعصور الوسطى، ولكن بُعد المسافة بين منطقة شمال بحر قزوين التي دارت فيها المعارك وأراضي الدولة العثمانية، أدى لهزيمة العثمانيين.

وفي تلك الفترة كان مقاتلو خانية تتار القرم، الدولة شبه المستقلة التابعة للدولة العثمانية، يُغيرون باستمرار على موسكو، ولكن مع توالي القرون ازدادت قوة روسيا وحجمها بفضل التحديث البطيء، بينما تراجعت الدولة العثمانية التي كانت أكثر تردداً في التحديث.

وفي القرن التاسع عشر، بدأت روسيا تقضم أجزاء مهمة من الدولة العثمانية، بما فيها خانية القرم الشهيرة، وتشجع البلدان الأوروبية التابعة للدولة العثمانية على التمرد، ونفذت مذابح بحق المسلمين الأتراك والشركس والشيشان وغيرهم في البلقان والقوقاز، وأصبح حلم قياصرة روسيا الاستيلاء على القسطنطينية، وهو ما دفع فرنسا وإنجلترا لدعم العثمانيين في كثير من الأحيان خوفاً من توسع النفوذ الروسي.

وكانت آخر الحروب بين البلدين هي الحرب العالمية الأولى، ولكن بعد اندلاع الثورة البلشفية في روسيا وتدخل الغرب لإفشالها واحتلال الحلفاء للأراضي التركية، وتقارب البلدين، بعد أن أصبح كلاهما يواجه تحدياً وجودياً من قِبل الغرب، ودعم البلاشفة المقاتلين الأتراك خلال حروب الاستقلال التركية.

وبعد الحرب العالمية الثانية انضمت تركيا للناتو خشية النفوذ السوفييتي، وأصبح لديها ثاني أكبر جيش في الحلف، بينما دعم السوفييت حزب العمال الكردستاني الماركسي التوجه بهدف زعزعة استقرار تركيا.

القمة التركية الروسية الإيرانية
منطقة جنوب أوكرانيا كانت جزءاً من الدولة العثمانية قبل أن تضمها روسيا/ويكيبيديا

بعد نهاية الحرب الباردة، عاد التنافس التركي- الروسي على استحياء، خرجت روسيا ضعيفة من هذه الحرب، وبدأت تركيا تحاول نشر نفوذها في آسيا الوسطى والقوقاز؛ حيث تتواجد الجمهوريات الإسلامية السوفييتية السابقة التي تشترك مع أنقرة في الإرث التركي والدين، ظهر هذا التنافس في التأييد التركي لأذربيجان، والروسي لأرمينيا في الصراع بين البلدين الوليدين على إقليم ناغورنو كارباخ، وهو الصراع الذي شهد هزيمة كبيرة لباكو في الجولة الأولى للحروب، تحولت لانتصار مدوّ في الحرب الأخيرة عام 2020، بفضل الدعم التركي بشكل كبير، إضافة للموارد النفطية الأذربيجانية.

ولكن ظل التنافس التركي- الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي منضبطاً غير حاد، وإن لم يخلُ من توتر، خاصة في ظل أحداث مثل حروب الشيشان.

ومع تولي حكومة حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا، أعطت أهمية لتعزيز العلاقات في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وكذلك تقوية العلاقات مع روسيا، خاصة في بُعدها الاقتصادي.

إيران وروسيا.. صراع على القوقاز

مثل الصراع بين تركيا وروسيا، وتركيا وإيران، فإن الصراع الروسي- الإيراني قديم، ورغم أنه أحدث من الصراع التركي- الروسي، فإنه يشكل فصلاً أكثر مأساوية بالنسبة لطهران.

فرغم أن الإيرانيين لم يشعروا بوطأة التوسع الروسي إلا في عهد بطرس الأكبر في نهاية القرن السابع عشر، ورغم أن قائد البلاد الشهير نادر شاه قد هزم الروس، فإنه سرعان ما كان الاختلال بين قوة إيران وروسيا أكبر بكثير من الاختلال بين قوة الأخيرة وتركيا.

وبينما كانت معظم المناطق التي استولت عليها روسيا هي مناطق أطراف في الدولة العثمانية، فإن المناطق التي استولت عليها من إيران كانت قريبة من قلب البلاد، حيث سيطر الروس على شمال القوقاز منتزعين مناطق أذربيجان وأرمينيا وجورجيا من إيران، بل أصبح لهم نفوذ كبير في العاصمة طهران، وفعلياً بدأت إيران تتحول من نهاية القرن التاسع عشر من إمبراطورية سابقة عظيمة إلى بلد شبه محتل ومقسم بين بريطانيا وروسيا.

ووصل التوغل الروسي ذروته بعد الحرب العالمية الثانية، حينما احتل الاتحاد السوفييتي أذربيجان وكردستان إيران، محاولاً خلق جمهوريتين انفصاليتين قبل أن تعيدهما طهران بعد انسحاب السوفييت إثر تلقيهم وعداً بالحصول على نصيب من كعكة النفط الإيرانية.

خلال عهد الشاه كان هناك قلق إيراني من غزو روسي، ولكن تدريجياً حدث تطبيع بين البلدين، وبعد الثورة الإسلامية عام 1979 حدث بعض التوتر في ظل الدعم السوفييتي للعراق في حربه ضد إيران، وتوجهات الثورة الدينية، ولكن تدريجياً تراجع التوتر في العلاقة مع ازدياد التوتر الأمريكي- الإيراني بعد الثورة، وتحسنت العلاقات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولكن رغم ذلك لم تصل العلاقات بين البلدين لمرحلة يمكن وصفها بالتحالف أو الصداقة، وظل الروس يفضلون الغرب على الإيرانيين في أوقات الخلاف، كما كان قلقهم واضحاً من البرنامج النووي الإيراني.

ووصلت العلاقات لذروتها بعد دعم البلدين المشترك لنظام الأسد، ولكن لم تصل للتحالف، وظل هناك تنافس مكتوم بينهما على السيطرة على سوريا، وسمحت روسيا لإسرائيل بقصف الأهداف الإيرانية في سوريا، ويمكن وصف العلاقة بينهما بعلاقة حليف الحليف.

سوريا تهدد بإشعال جولة الحروب القديمة

أعادت الأزمة السورية تحديداً الضوء للصراع الروسي التركي والتركي الإيراني بعد أن مضى عليه قرون، وتواجهت قوات البلاد الثلاثة وحلفائهم، ودبلوماسيوها بطريقة تشبه أزمات القرن التاسع عشر بشكل كبير.

كانت سوريا مهمة لكل بلد بشكل يراه استثنائياً، بالنسبة لتركيا فهي جار ملاصق له حدود طويلة وتداخل اجتماعي عميق، وكانت سوريا تقليدياً تمثل منفذاً لتهديدات حزب العمال الكردستاني ضد تركيا.

 وبعد اندلاع الثورة السورية، فإن حكومة حزب العدالة والتنمية ذات التوجهات الإسلامية لم تخفِ تعاطفها مع الأغلبية السنية للشعب السوري، في رغبتها في الديمقراطية وإنهاء سيطرة الأقلية العلوية على البلاد لصالح نظام أكثر تمثيلاً، رغم أنها سعت في بداية الأزمة السورية لتحقيق تسوية بين نظام الأسد والمعارضة، ولكن النظام رفض، فانحازت تركيا بشكل واضح للمعارضة.

في المقابل، ترى إيران في سوريا ذات الحكم الطائفي (رغم الاختلافات بين العلويين والشيعة الاثني عشرية) موطئ نفوذها الرئيسي في المنطقة، وجسراً لا يمكن الاستغناء عنه بين طهران وبين لبنان حيث يوجد حزب الله أقوى وكلاء إيران في المنطقة.

مع اندلاع الثورة السورية، بدا أن الثوار يقتربون من الإطاحة بالنظام، كانت تركيا داعماً رئيسياً لهم، ولكن لم تتدخل عسكرياً إلا نادراً، كما أنها في الأغلب لم تقدم لهم كثيراً من الأسلحة في هذه المرحلة، بل كانت تنقل لهم الأسلحة التي تقدمها الدول الغربية والخليجية، فلقد كانت تركيا داعماً مهماً للمعارضة السورية بين داعمين مهمين آخرين في مقدمتهم الولايات المتحدة والسعودية وقطر والعديد من الدول الأوروبية.

في المقابل، دعم الإيرانيون النظام في البداية على استحياء، ولكن مع تأكدهم من القصور الصادم لجيش النظام السوري العاجز والفاسد في وقت واحد، والذي كان يسلم الأرض دون قتال أحياناً بل مقابل بضعة آلاف من الدولارات، ولا يحارب إلا المدنيين في الأغلب.

لذا قرر الإيرانيون أن يلقوا بأقوى أوراقهم في أتون الحرب، وهي ورقة حزب الله، حتى لو ضحوا بالسمعة الطيبة التي اكتسبها هذا الحزب في العالم العربي، بسبب مقاومته لإسرائيل.

رغم أن حزب الله تدخل ببضعة آلاف مقاتل مقابل عشرات آلاف من الجنود لدى النظام السوري، فإن تدخله كان فارقاً، وذلك بسبب كفاءة مقاتلي الحزب وانضباهم مقابل الأداء السيئ لقوات النظام، وسرعان ما جنَّد الإيرانيون عشرات الآلاف من المقاتلين الشيعة، من باكستان وأفغانستان والعراق، ولم يقاتل الإيرانيون بأنفسهم، ولكنهم كانوا المشرفين على القتال والتخطيط له.

ولولا هذا التدخل الإيراني لانهارت قوات نظام الأسد، حسبما يقول خبراء وشهود مطلعون على الحرب السورية لـ”عربي بوست”.

في المقابل، دعمت تركيا قوات المعارضة، ولكن دون أي تدخل عسكري مباشر، حتى ذلك الوقت، كان هناك حدود للدعم التركي لأسباب مالية أو لأسباب متعلقة بحساسيات الداخل التركي، في وقت كان فيه النظام الديمقراطي في البلاد يواجه بعض التحديات التي ستظهر بالفعل في انقلاب عام 2016.

روسيا تقلب المعادلة السورية

وجاء المتغير الأكبر في الثورة السورية، عندما أرسلت روسيا جيشها بشكل مباشر عام 2015 إلى سوريا، وهو أمر لم تفعله تركيا أو إيران بنفس الفجاجة، وقلب التدخل الروسي المعادلة على عدة مستويات، حيث دمر القصف الروسي الوحشي معاقل المعارضة فيما كان المقاتلون الشيعة وجنود نظام الأسد يتحركون على الأرض ضدهم بغطاء من الطيران الروسي.

كما توقف الدعم الخليجي والأمريكي للمعارضة السورية، بل وصل الأمر لسحب الدول الغربية ومن بينها الولايات المتحدة لأنظمة صواريخ باتريوت من تركيا  عام 2015، في ذروة التوتر التركي الروسي في سوريا وانتهاك الطائرات الروسية للأجواء التركية، الأمر الذي وصل إلى إسقاط أنقرة لطائرة سوخوي 24 روسية، ودخولها في أزمة كبيرة مع موسكو وقفت فيها دول الناتو محايدة وكأن الأمر لا يعنيها.

كان من الواضح أن الغرب لم يقرر فقط ترك المعارضة السورية التي شجعها على التمرد ضد نظام الأسد، بل قرر ترك تركيا عضو الناتو وحدها في مواجهة روسيا والأسد وميليشيات إيران الشيعية في الوقت الذي أدت فيها الهجمات الروسية وقبلها هجمات داعش إلى تدمير القوة الأساسية للمعارضة السورية التي كانت تعاني أصلاً من التشرذم، وأعقب ذلك موجة لجوء سورية هائلة لتركيا جراء القصف الروسي على حلب بالأخص.

الانقلاب الفاشل يحسم قرار تركيا

كانت إحدى النقاط الفارقة في العلاقات التركية- الروسية هي الانقلاب الذي وقع في تركيا في صيف 2016، حيث بدا الغرب متقبلاً للانقلاب إن لم يكن مؤيداً أو ضالعاً، فيه، بينما بدا موقف روسيا وإيران خصمَي تركيا التاريخيين أفضل كثيراً.

مع إفشال الانقلاب، دخلت الديمقراطية التركية مرحلة جديدة انتهت فيها الوصاية العسكرية على الحياة المدنية، وأصبحت حكومة حزب العدالة والتنمية أكثر قدرة على اتخاذ القرارات في الأزمة السورية.

وهكذا بدأت تركيا سياستين متوازيتين؛ الأولى التنسيق مع الروس عبر سلسلة من الاتفاقات التي تحاول تقليل آثار هزيمة المعارضة السورية وحماية مصالح تركيا والمعارضة السورية بقدر الإمكان، الأمر الثاني توجه تركيا نحو التدخل العسكري المباشر بعد تراجع قوة المعارضة لضمان مصالحها، خاصة في مواجهة أكراد سوريا، وأيضاً حماية مناطق المعارضة مثلما حدث في حرب إدلب عام 2020.

في هذه المرحلة، كما في مراحل سابقة، شهدت سوريا حالة مثيرة للانتباه من ديناميات العلاقات بين القوى المؤثرة، خاصة تركيا وروسيا وإيران.

 كان هناك قتال بين حلفاء كل من الدول الثلاث، قتال كاد يتحول إلى اشتباك بين الجيوش النظامية نفسها، مثلما كاد يحدث في إدلب بين الجيشين التركي والروسي.

كما أن كل طرف يحتفظ لنفسه بحق ضرب حلفاء الطرف الآخر، فيضرب الروس المعارضة السورية، ويضرب الأتراك قوات نظام الأسد، وأحياناً الميليشيات الشيعية الموالية لإيران بما فيها حزب الله مثلما حدث في حالة نادرة عام 2020.

ورغم هذا التصعيد، سرعان ما يتوصل القادة السياسيون لاتفاقات مرحلية تنهي دورة القتال، وتحدد ترتيبات على أساس موازين القوى الحالية، وهي ترتيبات لا تكون دائمة وقابلة لحدوث انتهاكات لها تعيد دورة التفاوض بين الدول الثلاث.

وعلى هامش التنافس التركي- الإيراني والتركي- الروسي، كان هناك تنافس داخلي آخر بين حليفَي الأسد روسيا وإيران، حيث يسعى كل طرف لتعزيز نصيبه من الكعكة السورية، وهذا التنافس الداخلي مفيد بشكل كبير لتركيا.

اتسمت حالة التنسيق والصراع بين الدول الثلاث في السنوات الماضية في سوريا والقوقاز، وليبيا (حيث كان التنافس بين تركيا وروسيا) بقدر من المغامرة والخشونة من قِبل الأطراف الثلاثة، ولكنها اتسمت بالواقعية والقدرة على تفهم مصالح الطرف الآخر، بما منع تدهور الأمور لحرب مباشرة، والأهم أن الخلافات في الملفات السياسية والأمنية كان نادراً، ما يتوسع ليشمل التعاون في الملفات الأخرى، وإن كان الروس والإيرانيون كانوا يلوِّحون أحياناً بورقة الاقتصاد في بعض الأحيان، عبر الغاز الإيراني أو تقليل الروس لتدفق سائحيهم لتركيا.

القمة التركية الروسية الإيرانية، هل تعيد ترتيب هذه العلاقة المعقدة؟

تبدو القمة التركية الروسية الإيرانية بمثابة مرحلة جديدة من عملية إعادة ترتيب للعلاقات بين الدول الثلاث.

فمثلما كانت تركيا في موقع أضعف بعد دخول القوات الروسية لسوريا عام 2015، ولكن موسكو كانت حريصة على ضمان قدر من مصالحها، فاليوم يحدث العكس، فروسيا تبدو مشغولة في حرب أوكرانيا، وهذا قد يمثل فرصة لتركيا لتحقيق مكاسب في شمال سوريا.

ولكن من الواضح أنه اتساقاً مع ديناميات العلاقات التركية الروسية الإيرانية المعقدة، فإن أنقرة تسعى لتوسيع مساحة المنطقة الأمنية التي تريد نقل اللاجئين السوريين إليها، وتعزيز حماية حدودها، ولكن دون تحدٍّ شامل للإيرانيين والروس أو التعامل مع الأمر كأنه مباراة صفرية.

بل على العكس، فإن تركيا تسعى لأن تجعل بعض أهدافها في شمال سوريا مواتية للمصالح الروسية والإيرانية عبر التأكيد على المخاوف المشتركة من الأكراد.

كما تسعى في الوقت ذاته إلى أن تكون وسيطاً في الأزمة الأوكرانية، بطريقة تجدها كل الأطراف المتصارعة لا غنى عنها، وبما يجنبها خسائر قد تتعرض لها إذا اختارت طرفاً أو بالأحرى إذا قررت أن تنضم للعقوبات الغربية على روسيا.

بالنسبة لكل الأطراف، تعيد تركيا تقديم نفسها كطرف لا يمكن الاستغناء عنه، فهي منفذ نادر جغرافياً ودبلوماسياً وتجارياً لإيران وروسيا المحاصرتين، وكان لافتاً في هذا الصدد إعلان تركيا وإيران خلال القمة عن اتفاقات اقتصادية جديدة مع إيران على سبيل المثال.

وبالنسبة للغرب فإن تركيا هي الوسيط الوحيد الموجود حالياً مع روسيا، الذي يستطيع أن يناقش مسائل مثل أزمة القمح الأوكراني، والذي يمكن أن يطلق مفاوضات مستقبلية.

وحتى بالنسبة للاتحاد الأوروبي، دائم النقد لتركيا، فإنها طرف رئيسي في محاولة إيجاد بديل للغاز الروسي، في القوقاز وآسيا الوسطى وممر محتمل لهذا الغاز.

تمثل القمة التركية الروسية الإيرانية حلقةً مهمة في مسلسل العلاقات المركب بين البلدان الثلاثة، الذي يصعب وصف علاقاتها بأنها تحالف أو صداقة أو حتى عداء في المقابل.

فقدوم الرئيس التركي لطهران المعزولة للقاء بوتين الذي أصبح منبوذاً، رغم أن تركيا تعيد تجديد علاقتها بالغرب بشكل غير مسبوق، يحمل رسالة قوية للإيرانيين والروس، بأن أنقرة منخرطة في كل الملفات المشتركة معهم، وأنه حتى لو كانت تعتبر نفسها في موقف أقوى فإنها لن تحدث انقلاباً في ديناميات العلاقة بقدر ما أنها ستحدث تغييرات لصالحها مع مراعاة مصالحهم أيضاً. 

وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن بلاده مصرة على اجتثاث بؤر الإرهاب في سوريا، وأنها تنتظر من روسيا وإيران دعما بهذا الخصوص.

بالطبع الإيرانيون والروس خصوم صعاب المراس، وقد لا يستجيبون لكل طلبات تركيا، وقد يردون عليها بإثارة تحديات أخرى، ولكن تجربة التنافس التركي الروسي الإيراني خلال السنوات الماضية تؤشر إلى أنه على عكس الدول الغربية، فإن الدول الثلاث تجيد اللعب بالأوراق، كما أنه رغم العداء الكامن المتبادل بين الأطراف الثلاثة، فإن كلاً منها تقدر قوة منافسه وتاريخه، ولديها استعداد للوصول للحلول الوسط، بعيداً عن الأفكار الطوباوية التي باتت تميز الغرب وتجعل سياسييهم هواة بجانب ساسة هذه الأمم الثلاث المخضرمين.

كما أن الدول الثلاث تتفق بدرجات متفاوتة فيما بينها على القلق من الغرب والشكوى أنه لا يحترم مصالحها ولا تاريخها كما ينبغي.

زر الذهاب إلى الأعلى