الجاليات في تركيامقالات و أراء

شمس غربت لأجل هلال: الشيخ عبد العظيم الليبي

كنت أود سرد حكاية مختلفة اليوم؛ إذ كنت سأتحدث عن المساهمة العظيمة التي يقدمها بعض السوريين واليمنيين المقيمين في تركيا للتعريف بالمنتجات التركية وتسويقها وبيعها في الدول العربية على وجه الخصوص. وكما تعلمون فإن المنتجات التركية تحظى بإقبال شديد في الوطن العربي. وبغض النظر عن مواقف الأنظمة العربية، فإن الشعوب العربية تكنّ تعاطفًا ومشاعر إيجابية جارفة تجاه تركيا، وهو ما كنت سأتحدث اليوم عن المنافع التي تحصلها تركيا من وراء ذلك مع سرد بعض الأمثلة الرائعة الملموسة على ذلك. لكن تطوّرًا آخر قد حدث جعلني أرجئ الحديث عن هذا الموضوع في مقالي اليوم إلى موعد آخر.

تأثرت طويلًا بالرسالة التي أرسلها أمس صديقنا الليبي مصطفى صاجوزلي؛ إذ كانت نبأ وفاة. إننا جميعًا جئنا من عند الله وسنرجع إليه، فلا مفر من ذلك وليس هناك نهاية أخرى أو ملجأ آخر نهرب إليه. غير أنّ طريقة لحاقنا به تكشف النقاب عن الفروق الكائنة بيننا. فنحن نموت على ما حيينا عليه، وكيفما نكون موصولين بالله يعاملنا ربنا بالطريقة ذاتها.

لقد كان من لحق بالله هذه المرة هو عبد العظيم ميلاد الفراوي أحد مجاهدي بنغازي وأحد أسماء الثورة الليبية. وكان الفراوي قد خرج في نزهة مع أبنائه إلى ساحل منطقة قرابورون التابعة لمقاطعة أرناؤوط كوي في إسطنبول مساء أمس الأول عندما قفز إلى الماء، دون حتى أن يخلع ملابسه أو يفكر ولو للحظة، لإنقاذ مواطنَين تركيين من الغرق، وبعدما نجح في إنقاذهما قذفته الأمواج بعدما أصيب بإعياء نتيجة المجهود الذي بذله، فحاول مقاومتها لمدة طويلة، لكنها هزمته في النهاية، وعندما وصلت فرق الإنقاذ وأخرجته إلى اليابسة كان الوقت قد تأخر كثيرًا. وفي الوقت الذي استقرت فيه الحالة الصحية للشخصين اللذين أنقذهما الفراوي، فإنه فارق الحياة بالرغم من كلّ التدخلات الطبية التي حاولت إنقاذه بعدما أصيب بنزيف داخلي.

لقد ودع الفراوي الحياة – في الواقع – كما عاشها بالضبط؛ إذ عندما تراجعون شريط حياته ترون بشكل مدهش ذلك التناغم الفريد. ولم يكن آخر ما فعله قبل أن يموت أول مرة يخاطر فيه بحياته من أجل الآخرين، بل كان أحد الأسماء المعروفة جيدًا بكفاحها ضد الجنرال المتقاعد حفتر الذي يحاول أسر ليبيا. وكان الناس يتناقلون فيما بينهم في تلك الأثناء أنه أنقذ حياة العديد من الأشخاص.

لقد تبرع الفراوي مؤخرًا بفص من كبده لشخص كان يحتاج لزراعة كبد. وهي العملية التي أصابته بتعب شديد تلقى على إثرها العلاج لفترة. ولا بد أنه كان يكون آخر شخص كان عليه أن يقدم على ما أقدم عليه وأفضى لوفاته وهو شخص قد خضع لعملية وأصيب بمرض كهذا تسبب في إنهاك كبده وقلبه. لقد كان في التاسعة والأربعين من عمره. ومن الصعب أن يجد المرء كلمات يعبر بها عن حجم البطولة التي أظهرها في الوقت الذي كان يجب عليه المحافظة على صحته بسبب هذه العملية التي خضع لها.

لم يهتم الإعلام التركي كثيرًا بقصة الفراوي، الأب لثمانية من الأبناء، بيد أنّ أبعاد عظمة ما حدث لا تسعها أرض ولا سماء. فهو بالضبط كشمس اختارت أن تغرب من أجل الهلال.

فلماذا تجد الأمثلة السيئة لنفسها مساحة أوسع في وسائل إعلامنا وأجندتنا؟ ولماذا تنتشر الشرور أكثر وأسرع في عالمنا؟ كنت قد تحدثت قبل فترة عن امرأة “تبكي من أجل الآخرين”. فتلك الواقعة أثلجت قلوبنا وجعلتنا نتأكد أنّ الإنسانية لم تمت وأحيت آمالنا في مستقبل البشرية. ولا شك في أنّ هناك الكثير من مثل هذه الوقائع. لكن ألا يخبركم من يخاطرون بحياتهم من أجل أناس آخرين لا يعرفونهم بأن الإنسانية يمكنها أن تلمع كالشمس الساطعة عند اللزوم؟

لقد كان عبد العظيم الفراوي، المولود في بنغازي، أبًا لثمانية أبناء وإمامًا وخطيبًا يعمل لدى وزارة الأوقاف الليبية. لكن هذه لم تكن مهنته الأصلية؛ إذ كان قد عمل بعد تخرجه في كلية العلوم البحرية قبطانًا بحريًّا لفترة طويلة، وكان من بين الأسماء التي لعبت دورًا حيويًّا في الثورة الليبية عام 2011. وكان الآلاف يهرعون إلى المسجد الذي يلقي به خطبه من كل حدب وصوب في ليبيا للاستماع لدروسه. لكنه اعتقل بعد ذلك على يد نظام حفتر وأودع سجن برسس الذي تعرض فيه لتعذيب شديد استمر 7 أشهر قبل أن يفرج عنه لتدهور حالته الصحية في مايو/أيار 2015 شريطة أن يغادر الأراضي الليبية التي ولد بها. فغادر الفراوي إلى تركيا التي استقر بها وكذلك بدأ يتلقى العلاج في مستشفياتها، كما كان يقدم خدمات الإمامة والخطابة في مدارس الجالية الليبية ويدعم بعض المؤسسات الوقفية التركية في مسائل تحفيظ القرآن الكريم.

كن الفراوي أحد ملايين العرب الذين وجدوا مؤخرًا ملجأ لأنفسهم في تركيا بسبب الصعاب التي واجهوها في بلدانهم. فهو لم يهرب من الحرب في ليبيا، بل أدى واجبه تجاه وطنه ثم سافر إلى تركيا. ولقد كان واحدًا ربما من العشرات أو المئات الذين رأوا الشابين اللذين كانا سيغرقان بينما كان في نزهة مع زوجته وأبنائه الثمانية على ساحل البحر. لكنه كان الوحيد الذي فعل ما لم يفعله أحد غيره بعدما هرع لينقذ روحين دون حتى أن يخصص وقتًا لخلع ملابسه، بل وبحالته الصحية المتدهورة أصلًا.

لقد كان بالنسبة لمن يعرفه الشيخ عبد العظيم، ذلك أنه كان رجل علم ومعلم وأحد الفضلاء الذين يعملون بما يعلمون.

ولو تناولنا الأمر فقط من خلال هذه الواقعة لتساءلنا عما نكون وما لدينا ونملكه ومن منا ومن بعيد عنا؟

ولو تعمقنا في تلك الأسئلة المشؤومة ونظرنا إلى الطريق الذي نكافح من أجله في هذه الدنيا، ألن نشهد الكثير من الأشياء؟

ويبدو أنّ الشيخ عبد العظيم قد شهد الكثير من الأشياء حتى أنعم الله عليه بالشهادة.

 

 

ياسين أكتاي – يني شفق

تعليق واحد

  1. اللهم اكرم مثواه ووسع نزله وابدله دار خير من داره، واهلا خير من اهله، اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد، اللهم نقه من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس، اللهم لا تحرمنا اجره ولا تفتنا من بعده،
    اللهم تقبله في الشهداء والصديقبن.

زر الذهاب إلى الأعلى