ثقافيةروائع التاريخ العثماني

عقار مصر في شارع الاستقلال باسطنبول .. بناه أمير مصري وتوفي فيه مؤلف نشيد تركيا الوطني وسكنه عميل للموساد

في منطقة باي أوغلو في حي غلطة سراي الشهير في قلب إسطنبول الأوروبية يقع شارع الاستقلال الأشهر، الذي سُمي قبل الجمهورية بالشارع الكبير، وهو أشهر المزارات السياحية في المدينة، إذ يحوي بين جنباته بنايات تاريخية عديدة، منها عقار مثير للاهتمام يقع إلى القرب من كنيسة سان أنطون الكاثوليكية الشهيرة، ويُعرف باسم “عقار مصر” (Mısır Apartmani).

 

 

أُنشئ هذا العقار السكني وفق نمط الفن الجديد (Art Nouveau) الذي اشتهر في أخريات القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية والأميركتين، وبدأ بناؤه عام 1905م وانتهى عام 1910م. وقد أُحضرت كثير من مواد البناء من باريس، وكان المشرف على إنشاء العقار المهندس العثماني الأرمني الأصل “هوفسيت أزنافوريان”، الذي هاجرت أسرته من لندن إلى إسطنبول في منتصف القرن التاسع عشر، لكنه اضطر للهجرة إلى القاهرة مع أسرته إبان الحرب العالمية الأولى، وفيها قضى نحبه عام 1935م، بعد أن اشتهر ببناء العديد من المباني المهمة في العاصمة العثمانية إسطنبول في أثناء تلك الحقبة.

لكن لحساب مَن بُنِيَ هذا العقار الذي لا يزال قائما على حاله مِن الفخامة والجمال في قلب إسطنبول؟ ومَن أشهر من سكنه فيما بعد؟ ولماذا استقر فيه شاعر استقلال تركيا ومؤلف نشيدها الوطني “محمد عاكف أرصوي” في الأشهر الستة الأخيرة من حياته؟ وكيف هي حاله اليوم بعد مرور أكثر من مئة وعشرة أعوام على بنائه؟

الأمير العلوي في الأستانة

في عام 1866م في القاهرة، وُلد الابن الثاني للأمير عبد الحليم باشا الابن الرابع لمؤسس الدولة العلوية محمد علي باشا، وقد سمَّاه عباس، وقيل محمد عباس، وكان أخوه الأكبر الأمير سعيد المولود قبله بعام شخصا مهما صار فيما بعد رئيس وزراء الدولة العثمانية (الصدر الأعظم)، وأحد أشهر رجالات الدولة في أثناء حكم الاتحاد والترقي لا سيما إبان حرب البلقان الأولى والحرب العالمية الأولى. نشأ عباس حليم إذن في كنف الأسرة العلوية التي نعمت بالثراء والسلطة وتوثقت صلتها بالباب العالي، وعاش طفولته في ظل حكم ابن عمه الخديوي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا، وكان الخديوي إسماعيل يغار ويخشى على سُلطته من رجلين من أبناء أسرته؛ الأول أخيه الأمير مصطفى فاضل باشا، والثاني عمه الأمير عبد الحليم باشا بن محمد علي[2].

ولكي نفهم أسباب خوف الخديوي إسماعيل من أخيه وعمه، لا بد أن نرى مقدار ثروة والدهما في مصر. فقد تصدرت أسرة محمد علي شريحة كبار مُلاك الأراضي الزراعية طوال فترة حكمه نتيجة استحواذهم على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، حصلوا عليها حينما قام كل والٍ من أفراد الأسرة بتوسيع ملكياته الخاصة، وقد ساعدهم على ذلك أن ملكية الأراضي الزراعية طوال عهد محمد علي وحتى بدايات عصر حفيده عباس الأول كانت ملكا للأسرة العلوية[3]. وتشير التقديرات إلى أن ملكية محمد علي وأسرته في أواخر عهده (توفي محمد علي عام 1849م) بلغت نحو 334.286 ألف فدان، بالإضافة إلى عُهد أبنائه التي بلغت 327.762 ألف فدان في مديريات الشرقية والغربية والدقهلية والفيوم[4].

الخديوي إسماعيل (مواقع التواصل الاجتماعي)

عندما وصل إسماعيل إلى الحكم أخذ يوسِّع مساحة ممتلكاته، وبسبب الغيرة والخوف الشديد من عمه عبد الحليم باشا وأخيه مصطفى فاضل باشا كما ذكرنا، فقد أجبرهما على أن يبيعا ممتلكاتهما التي بلغت مساحتها نحو 75 ألف فدان بجميع محتوياتها من مبانٍ ومضخَّات للري ومصانع السكر ليقطع كل الصلات التي تربطهما بمصر، ويتخلّص من منافستهما السياسية. ولكن مع خلع الخديوي إسماعيل عن العرش واستقرار الحكم لابنه الخديوي توفيق، استطاع عبد الحليم باشا أن يستعيد جزءا مهما من أطيانه إلى أبنائه عام 1887م[5]، ومع وفاة الأمير عبد الحليم باشا عام 1894م، قُسِّمت أراضيه وثروته في مصر وإسطنبول بين أبنائه، وعلى رأسهم الأمير سعيد حليم باشا والأمير عباس حليم باشا.

وبهذا يمكننا أن نتخيل مقدار الثروة الكبيرة التي تركها الوالد لأبنائه في نهايات القرن التاسع عشر، وكيف أثَّرت في مسيرتهم فيما بعد. وما يهمنا من هذا هو سيرة مُنشئ عقار مصر في قلب إسطنبول بشارع الاستقلال، وهو الأمير عباس حليم بن عبد الحليم باشا حفيد محمد علي باشا (1866-1934م).

في عام 1870م وتحت وقع الضغوط التي مارسها الخديوي إسماعيل على الأمير عبد الحليم، قرر الأخير أن يرحل بأسرته ويستقر في العاصمة العثمانية إسطنبول، وكان ولداه سعيد وعباس لا يزالان عند عمر الخامسة والرابعة. وهكذا تلقى الولدان تعليمهما الأوّلي في إسطنبول، وفيها تعلَّما مع العربية كلًّا من التركية والفارسية والفرنسية والإنجليزية، ولما بلغا سن المراهقة قرر والدهما أن يستكملا تعليمهما في سويسرا، وهنالك أتمَّا دراسة العلوم السياسية والإدارية. وحين عودتهما قرر السلطان عبد الحميد الثاني أن يُعيِّنهما عضوين في مجلس شورى الدولة، لكن لا تُسعفنا المصادر التاريخية عن المهام والمناصب التي ظل يترقى فيها الأمير عباس حليم في تلك الفترة من بداية القرن العشرين وحتى عام 1913م، وهو العام الذي تولى فيه أخوه الأمير سعيد حليم منصب الصدارة العُظمى للدولة العثمانية لمدة أربع سنوات تالية. ولكن في ظل رئاسة أخيه للوزراء، عُين وزيرا للأشغال العامة لمدة عام، وواليا لولاية بورصة، وقد استعفى من هذه الوظائف حين استقال أخوه من رئاسة الوزراء عام 1917م[6].

عقار مصر وحكاياته المثيرة

 

 

تزوَّج عباس حليم من إحدى بنات الخديوي توفيق عام 1895م في زمن حُكم أخيه الخديوي عباس حلمي الثاني (1892-1914م)، وهو الأمر الذي أعطاه بلا شك مساحات وممتلكات أكبر في مصر، فضلا عن سهولة الحركة بين القاهرة وإسطنبول التي بات يتمتع بها بعد وفاة إسماعيل بهدف مباشرة تلك الأملاك والاطلاع عليها. وخلال هذه الفترة، قرَّر شراء مسرح قديم متهدِّم في الشارع الكبير بإسطنبول (الذي صار فيما بعد شارع الاستقلال) بجوار أكبر كنيسة للروم الكاثوليك في المدينة، ليبنى على أنقاضه عمارة سكنية من ستة طوابق وفق النمط المعماري الغربي الشائع آنذاك. وقد بحث عن أشهر المعماريين في إسطنبول لكي يُنفِّذ له هذا المشروع، ثم وجد ضالته في المهندس العثماني الأرمني أزنافوريان الذي درس هذا الفن في العاصمة الإيطالية روما. وبعد مرور خمس سنوات من الإنشاء تم تسليم المبنى رسميا عام 1910م لسُكنى الأمير عباس حليم وأسرته حينما حلوا في العاصمة إسطنبول[7].

صورة التُقطت عام 1924 في إحدى شقق عقار مصر، وقد جمعت أشهر شعراء وأدباء تركيا حينذاك. (مواقع التواصل الاجتماعي)

اللافت أن هناك صورة فوتوغرافية شهيرة التُقطت عام 1924م في إحدى شقق هذا العقار لأشهر شعراء وأدباء تركيا في ذلك العهد، وعلى رأسهم “مدحت جمال” و”محمد عاكف أرصوي” و”عبد الحق حامد” و”سليمان نظيف” وغيرهم، وقد أثارت ولا تزال هذه الصورة العديد من النقاشات في تركيا حتى أُلِّفت فيها كتب ومقالات، أشهرها كتاب “بشير أيواز أوغلو” بعنوان “الحكاية الطويلة لصورة عام 1924م”[8]. وأثارت الصورة الجدل لأنها جمعت أهم شعراء تركيا في حينها، لا سيما “محمد عاكف أرصوي” الشاعر الذي خطَّ نشيد الاستقلال الوطني الذي يغنيه الأتراك إلى يومنا هذا، بالإضافة إلى إسهامات الآخرين الكبيرة في ميدان الأدب والحقوق. علاوة على ذلك، مَثَّل هؤلاء الشعراء اتجاهات فكرية متباينة تماما، فمنهم صاحب التوجه الإسلامي، ومنهم صاحب التوجه القومي، ومنهم المؤمن بالعلمانية والليبرالية الغربية، ورغم ذلك تناسوا خلافاتهم الفكرية في ذلك اللقاء، وانحيازاتهم بين مؤيد للدولة العثمانية مثل “أرصوي” ومؤيد للجمهورية مثل “مدحت جمال”[9].

مؤلف النشيد الوطني التركي الشاعر “محمد عاكف أرصوي” (1873- 1936م). (مواقع التواصل الاجتماعي)

ظل عقار مصر مسكنا خاصا للأمير عباس حليم وعائلته، ولم يتم التوسُّع في تسكينه حتى وفاته عام 1934م، فمن بعدها قرر الورثة أن يعرضوا البناء للإيجار بكل طوابقه. وبسبب الخلاف الفكري الذي وقع عام 1925 بين “أرصوي” المنحاز للاتجاه الإسلامي ومآثر الدولة العثمانية، و”مصطفى كمال أتاتورك” وحكومته العلمانية؛ قرَّر “أرصوي” السفر إلى مصر بدعوة من صديقه الأمير عباس حليم ومن ثم البقاء في منفاه الاختياري لأكثر من عشر سنوات ظل فيها تحت رعاية صديقه عباس حليم. وقد عمل “أرصوي” حين كان في إسطنبول مدرِّسا خاصا لبعض أبناء الأمير عباس حليم، وكَنَّ له الأخير بدوره احتراما كبيرا ورأى فيه إنسانا مؤمنا بمبادئه وقيمه، ويملك براعة في صوغ آلامه وأحلامه في قوالب أدبية وشعرية، لعلّ منها قصيدته [10] التي كتبها بالتركية وأهداها للأمير وجعل عنوانها “في الأقصر” (El Uksur’da).

عمل أرصوي في مصر أستاذا لمادة اللغة التركية وآدابها في الجامعة المصرية (جامعة القاهرة)، وقد سكن في حلوان بجنوب القاهرة، ولكنه بدأ يشعر بالألم والحسرة والشوق لبلاده بعد مرور خمس سنوات أو أكثر بقليل على بقائه في مصر. ومع وفاة صديقه عباس حليم عام 1934م، استشعر أرصوي تفاقم مشكلاته النفسية ثم المادية، ومع مرضه الذي بدأ ينتشر في جسده آثر العودة إلى إسطنبول في شهر يونيو/حزيران 1936م، وكان قدره أن ينتقل من مصر إلى قطعة أخرى منها في إسطنبول هي “عقار مصر”، إذ مكث هناك في الأشهر الستة الأخيرة من عُمره في الطابق الثاني من البناء، حتى لقي ربَّه في ديسمبر/كانون الثاني من العام نفسه عن عُمر ناهز الثالثة والستين[11].

صورة فوتوغرافية بجوار الأهرام للأمير عباس حليم (أقصى اليسار) يليه “أرصوي”. (مواقع التواصل الاجتماعي)

لاحقا، باع ورثة الأمير عباس حليم عقار مصر إلى واحد من أشهر رجال الأعمال الأتراك حينذاك هو “خيري إبار” عام 1940م، الذي أضاف العديد من التعديلات والتغييرات، فقد حصل على رخصة بإنشاء طابقين جديدين، فضلا عن التغييرات الداخلية والديكورات وتركيب مصعد لم يكن موجودا في البناء من قبل. وظل عقار مصر في حوزة “إبار” وأولاده رغم التضييقات الأمنية التي طالته في ستينيات القرن العشرين وسجنه ثم هجرته إلى البرازيل، ومن ثم صار العقار شبه فارغٍ حتى اشترت إحدى الشركات العقارية الخاصة 70% منه عام 2000؛ ليُؤجَّر منذ ذلك الحين وإلى اليوم لصالح العديد من المعارض وبيوت الموضة والشركات العالمية.

سكَن هذا البناء العديد من مشاهير الأطباء والأدباء وبيوت الموضة العالمية والمحلية، التي اشتهر منها في ذلك الحين أسماء مثل المغنية والفنانة التركية الشهيرة “أمل ساين”، والمغنية التركية ذات الأصل الليبي “صفية آيلا”، فضلا عن العديد من مشاهير السياسيين على رأسهم “حسام الدين جيندوروك” رئيس مجلس الأمة التركي السابع عشر، الذي ظل يتردد على مكتبه في الطابق الخامس من هذا البناء أكثر من خمسين عاما. كما سكن البناء بعض مشاهير اليهود، منهم طبيب الأسنان “سامي غونزبرغ” الذي أشرف على علاج مصطفى كمال أتاتورك وزاره بين الحين والآخر في هذا العقار، بل وقال بعض الباحثين المتتبعين لتاريخ العقار إن يهوديا اسمه “روفين شيلوخ” سكن العقار لفترة من الفترات، وكان أحد العُملاء السريين للموساد الإسرائيلي في بدايات نشأته وتكوينه إبان تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي. وقيل إن الرجل عقد لقاءات مع الكثير من اليهود في هذا العقار في فترات مختلفة[12].

مدخل عقار مصر (ويكيبيديا)

تلك هي القصة المثيرة لعقار مصر الذي أنشأه أمير مصري من سلالة محمد علي باشا لقضاء أوقات هانئة مع أسرته في إسطنبول العثمانية. وقد تنقلت به الأحوال حتى سكنه “محمد عاكف أرصوي” أشهر شاعر وأديب في تاريخ تركيا الحديث الذي كتب نشيدها الوطني، ثم ما لبث أن خالف مؤسس الجمهورية فانتهى به الحال إلى مصر قبل أن توافيه المنية في عقارها بشارع الاستقلال. ومن بعد ذلك تنقل العقار الشهير بين أيدي رجال الأعمال، وسكنه الفنانون الأتراك واستأجرته محلات الموضة العالمية، بل وقطنه أحد المشتبه في عمالتهم للموساد، ولعل للعقار حكايات شخصية لم تصل إلينا بعد، ولعل التاريخ أيضا يُخبئ له المزيد من المفاجآت.

__________________________________________

المصادر:

  • [1] Pamukçiyan, Kevork. IV. Biyografileriyle Ermeniler, Ermeni Kaynaklarından Tarihe Katkılar.
  • [2] رؤوف عباس: النظام الاجتماعي في مصر في ظل الملكيات الزراعية الكبيرة ص71.
  • [3] رؤوف عباس: السابق نفسه.
  • [4] علي بركات: تطور الملكيات الزراعية في مصر ص85.
  • [5] أمل فهمي: أمراء الأسرة المالكة ودورهم في الحياة المصرية ص217.
  • [6] MUSTAFA İSMET UZUN, ABBAS HALİM PAŞA (1866-1934) Türk devlet adamı, TDV İslâm Ansiklopedisi.
  • [7] Mısır Apartmanı
  • [8] Beşir AYVAZOĞLU, 1924 bir fotoğrafın uzun hikayesi, KAPI YAYINLARI, Türkiye.
  • [9] Bir Devrin Kısa Tarihi Bir Fotoğrafta Saklı
  • [10] Fevziye Abdullah Tansel, Mehmed Akif Ersoy Hayatı ve Eserleri.
  • [11] Mehmet Akif Ersoy Biyografisi
  • [12] Mısır Apartmanı hakkında bilgiler, hikayesi ve ulaşım tarihi
المصدر : الجزيرة


زر الذهاب إلى الأعلى