عـالـمـيـة

ماذا بعد لحظة لبنان “التشرنوبيليّة”؟

شبّهت وسائل إعلام عربيّة انفجار مرفأ بيروت أمس بالقنبلة الذرّيّة التي ألقتها الولايات المتّحدة على هيروشيما اليابانيّة. للمفارقة، يحيي العالم غداً الذكرى الخامسة والسبعين على ذلك الحدث الذي غيّر وجه العالم بعدما أنهى الحرب العالميّة الثانية. بالمقابل، شبّه آخرون فاجعة بيروت بالتسرّب النوويّ الذي حصل في تشرنويبل سنة 1986. ذاك الحدث أيضاً غيّر وجه العالم، إذ ساهم في انهيار الاتّحاد السوفياتيّ.

 

 

من حيث الشكل يبقى انفجار المرفأ أقرب إلى انفجار مفاعل تشرنوبيل. فكلاهما، حتى إشعار آخر، لم يتعرّض لعمل تخريبيّ خارجيّ. على الرغم من أنّه لا يمكن استبعاد العمل العدوانيّ عمّا حدث في بيروت، تبقى المؤشّرات الأوّليّة التي تحدّثت عن خطأ بشريّ أولى بالاهتمام. فالخطأ الأساسيّ يكمن في الإبقاء على مادّة شديدة الانفجار مكدّسة طوال سنوات في المستودعات، وبطريقة لا تراعي شروط السلامة العامّة. أمّا قصفها أو افتعال إشعالها المحتملَين فيُستبعدان حاليّاً بانتظار المزيد من التحقيقات المكثّفة، بناء على القاعدة الشهيرة للعالِم الأميركيّ كارل ساغان: “الادّعاءات الاستثنائيّة تتطلّب أدلّة استثنائيّة”.

ثمّة أيضاً تشابه آخر بين الحادثين لجهة تقارب عدد الضحايا البشريّة وكلاهما أسقط حوالي 100 ضحيّة. لكنّ الخسائر في أرواح اللبنانيّين يمكن أن تزداد مع مرور الوقت. هذا من حيث الشكل. أمّا من حيث المضمون، فقد عبّر الانفجاران عن اهتراء السلطة السياسيّة التي تتولّى إدارة الشؤون العامّة أكان في الاتّحاد السوفياتيّ أم في لبنان، مع حفظ الفارق الكبير بين حجم وإمكانات ودور الدولتين في صناعة التاريخ.

 

 

قُدِّر لموسكو السوفياتيّة أن تسقط تحت ثقل نظامها الخاص. في كتابه “فنّ الحرب الإيديولوجيّة” (2019) يروي الكاتب الفرنسيّ الدكتور فرانسوا-بيرنار ويغ كيف بدأت أزمة الماركسيّة باكراً مع القبضة الحديديّة على المجتمع مروراً بالغرق في “الإمبرياليّة” نفسها التي كانت تريد أن تحاربها وصولاً إلى تآكل النخب في الشرق والتي لم تدافع عن نفسها بقوّة حين ثارت الشعوب ضدّها. وأشار أيضاً إلى أنّ هذا التآكل الرمزيّ أصاب الوعد التاريخيّ بالثورة وأصاب أيضاً البروليتاريا كلاعب تاريخيّ كما خطاب التحرير.

 

على أبواب ذكرى مرور مئة عام على تأسيس لبنان الكبير، أصاب التشلّع العقد الاجتماعيّ الذي كان في أساس توزيع السلطة في لبنان فانهارت الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والأمنيّة بشكل دراميّ. تسارع هذا السقوط في السنوات الأخيرة بفعل انعزال لبنان عن محيطه والتآكل الذي طال دوره. فلا عاد هو “صلة الوصل بين الشرق والغرب”، ولا عاد “سويسرا الشرق”. وفيما وصل نظامه المصرفيّ إلى شفير الانهيار، تبدو مكوّناته عاجزة عن تحديد معنى واحد لكلمة مثل “الحياد”. حتى دوره ك “رسالة” تعايش بين الأديان أصابه الشحوب. وما كان يُنظر إليه في الستّينات على أنّه نموذج يُحتذى به، بات يُخشى عليه من أن يصبح دولة منبوذة.

إنّ انعكاس “الانهيار المعلّق” للعقد الاجتماعيّ على مفاصل الحكم شديد الوضوح. المماطلة في تشكيل الحكومات وانتخاب رئيس للجمهوريّة وإقرار قانون انتخابيّ هي علامةٌ وعلّةٌ لهذا الانهيار معاً.

اعتقد الزعيم السوفياتيّ السابق ميخائيل غورباتشيف بأنّ انفجار تشرنوبيل كان “ربّما السبب الحقيقيّ لانهيار الاتّحاد السوفياتيّ”. غورباتشيف قَبِل بتلقّي الانتقادات من جانب النخب لأنّه كان بحاجة إليها لكي يمرّر مشروع “الغلاسنوت”. ومع انتشار المعلومات أكثر بفعل المشروع، بات السوفيات مقتنعين بأنّ النظام غير قابل للإصلاح.

في لبنان، تبدو الصورة ضبابيّة على هذا المستوى. فالإشكاليّة ليست في نقص تداول المعلومات. تخشى الحكومة اليوم الانتقادات الشعبيّة كما ترتاب من النخب غير المنضوية في مجموعة لامتناهية من “مستشاري” أحزابها التقليديّة. لهذا السبب، قلّة من اللبنانيّين تخدع نفسها بانتظار “غلاسنوت” جدّيّة من الانفتاح والشفافيّة في وقت تسير الحكومة الحاليّة باتّجاه المزيد من الانعزال عن شعبها وعن العالم وباتّجاه المزيد من المحاصصة.

من خلال قراءته للماركسيّة، وبالرغم من اعترافه بوجود ألف تفسير لعدم قدرته على أسر ألباب الملايين حول العالم، يضيف ويغ انعدام قدرة الفكر الماركسيّ القديم على التكيّف مع الإعلام المرئيّ والمسموع في تلك الحقبة.

 

أمّا في لبنان فثمّة عجز كبير للائتلاف الحاكم عن التكيّف مع متطلّبات الحوكمة الحديثة. تتنافس الصين والولايات المتّحدة ودول أخرى على الذكاء الاصطناعيّ، بينما تتصارع القوى السياسيّة اللبنانيّة على كيفيّة تأمين الكهرباء. في بريطانيا، يتقدّم وزيرٌ باستقالته لأنّه تأخّر دقيقة عن إحدى جلسات البرلمان البريطانيّ. وفي لبنان، يرفض أيّ سياسيّ تحمّل مسؤوليّة ولو معنويّة عن أسوأ انفجار في تاريخ البلاد. ينتظر المواطنون اللبنانيّون بدء تقاذف المسؤوليّات قريباً.

إنّ توقّع ولادة لبنان جديد بعد اللحظة “التشرنوبيليّة” الخاصّة به ليس أمراً سهلاً. وُلدت توقّعات شبيهة بعد انتفاضات 14 آذار 2005 و 17 تشرين الأوّل 2019، سرعان ما تلاشت. لكنّ تلاشيها لا يعني استحالتها. إنّها لحظة تستدعي التفكير في استخلاص دروس هاتين التجربتين لتفكيك استمرار توالد الائتلافات الحكوميّة التقليديّة بصرف النظر عن التجديد الشكليّ فيها. غير أنّ فاجعة بيروت لا تحتّم فتح مدخل لتغيير في تركيبة السلطة وحسب. فمعاملة السلطة الحاليّة على أنّها منفصلة تماماً عن المجتمع هي خطأ يوازي اعتبارها تجسيداً فعليّاً له.

لقد أنتج تحلّل العقد الاجتماعيّ اللبنانيّ سلطة هجينة ستواصل في المدى المنظور إثبات إخفاقها في إدارة الشؤون الداخليّة اليوميّة مهما بدت ثانويّة أو عرضيّة. أثبت انفجار الأمس كيف يمكن خطأ عرضيّاً لكنْ مزمناً أن يفجّر كارثة حقيقيّة. يحتاج اللبنانيّون إلى ترميم العقد الاجتماعيّ أو إنتاج آخر في حال تعذّر الخيار الأوّل. عدم تكرار اللحظة التشرنوبيليّة يعتمد كثيراً على ذلك.

المصدر: “النهار”

زر الذهاب إلى الأعلى