أخــبـار مـحـلـيـة

مضيعة للوقت وخطأ في الحسابات.. لماذا لن تتقارب تركيا مع النظام السوري رغم تصريحات وزير خارجيتها؟

يقول وزير الخارجية التركي “مولود تشاووش أوغلو”، في آخر تصريح له مثير للجدل: “علينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما، وإلا فلن يكون هناك سلام دائم”. 

الوزير التركي يتحدث اليوم من منطلق الشعور بالقلق والمخاوف الحقيقية من المشروع الذي بات يتدحرج كالكرة الثلجية شيئاً فشيئاً نحو التمدد والانقسام على امتداد الجغرافيا السورية،  المشروع هذا مع الوقت تحوّل إلى واقع لا مفر منه، ولا يخفى على أحد أن أنقرة وبحكم الضربات الاستباقية التي أطلقتها في عفرين عام 2018، وفي رأس العين وتل أبيض 2019، تمكنت على الأقل من تأخير أو عرقلة تمدد هذا المشروع من الوصول إلى البحر المتوسط، لكنها حتى الآن لم تتمكن من إلغائه أو نسفه بشكل كامل، لأن تعدد اللاعبين داخل الملف بات أمراً مقلقاً بالنسبة لها، ومنهم من يستخدم هذه الورقة ضدها لابتزازها، وبالتالي لإجبارها على الرضوخ، وعرقلة مسيرة التطور المذهلة التي أحدثها حزب العدالة والتنمية داخل الجغرافيا التركية منذ  عشرين عاماً. 

تاريخ الخلافات

يعود عمق الخلافات بين الدولتين الجارتين (سوريا- تركيا) عندما دخل “عبد الله أوغلان” إلى سوريا في آواخر السبعينيات من القرن الماضي، وأقام في مدينة كوباني لمدة أسبوعين حتى وصل الخبر إلى أجهزة أمن النظام، فتم التواصل معه واستدعاؤه إلى دمشق، وفيما بعد إلى اللاذقية، ومن هناك بدأت اللعبة، وأعدّ النظام هذه الورقة في مطابخه بشكل جيد تحضيراً لاستخدامها في ملفين:

الأول: لابتزاز تركيا كلما تطلب الأمر، وثانياً: لحماية نظامه السياسي واستخدامه كقوة رادعة لمواجهة التحديات التي تحيط به، وبالفعل الحسابات كانت دقيقة ومدروسة بشكل جيد، والأحداث المتتالية منذ 2011 أثبتت صحة هذه النظرية ودقتها. 

فعندما ثار الشعب السوري وطالب بالحرية وانتفض في كل مدينة وبلدة وقرية في أنحاء سوريا، النظام بحكم الخبرة والتفنن والقدرة على التلاعب بأوراق المنظمات المسلحة في الشرق الأوسط، تواصل على الفور مع حزب العمال الكردستاني، وحدث لقاء معروف فيما بينهما في مجمع (دوكان) في السليمانية بإقليم كردستان العراق عام 2012، وكانت هذه هي الشرارة الأولى التي انطلق منها هذا الحزب ودخل في مواجهة مباشرة مع الشعب السوري ومن أوسع أبوابه، رداً للجميل للذي أسسه ودعمه لوجستياً وعسكرياً طيلة العقود الماضية. 

والمنطق يقول إن النظام سلّم رأس “أوجلان” لتركيا تحت ضغوط معينة ومحددة، لكنه أعاد ترتيب صفوفهم من جديد من خلال العمل والتنسيق مع الكوادر الإيرانية لإطلاق حزب جديد في عام 2003، تحت مسمى حزب “الاتحاد الديمقراطي”، كل ذلك للالتفاف على المطالب التركية وعلى اتفاقية “أضنه” التي تضمنت تسليم العناصر المطلوبة من الحزب المذكور لتركيا،  وملاحقتهم داخل الجغرافيا السورية، والتغلغل داخل العمق السوري 5 كلم، ثم الانسحاب فور انتهاء المهمة. 

ومن هنا يمكننا القول إن النظام السوري لا يمكنه التخلي عن هذه المنظومة مهما كلّف الأمر، وحتى لو اجتاح الجيش التركي نصف الأراضي السورية، لأنه إلى جانب حزب الله يشكلان صمام الأمان لحماية دمشق واللاذقية من السقوط، ولا شك النظام استغل هذه العناوين لتخويف تركيا تارة، وتارةً أخرى لتطويق المعارضة في حلب عام 2016، وبالتالي محاصرتها والقضاء عليها، وهذا ما حدث بالضبط.

مَن الخاسر في معركة “المصالحة”؟

النظام منذ أربعين عاماً أسس أول حزب كردي مسلح في القرداحة، معروف اليوم بـ”حزب العمال الكردستاني”، وكان الحامي له ولأركانه، ويتم تدوير زوايا العلاقة بينهما من خلال الحرس الثوري الإيراني. 

الأتراك بدورهم وجدوا أنفسهم اليوم أمام خيارين أحلاهما مر، لأن دائرة الصراع توسعت بسبب انخراط أكثر من لاعب في الحلبة، متجاوزين دائرة دمشق وطهران نتيجة دخول الأمريكان والإسرائيليين والبريطانيين وحتى الروس والفرنسيين على خط المواجهة، فهم جميعاً بحسب المنطق التركي يعملون اليوم على إنشاء كيان سياسي شبيه بـ(قطاع غزة) جديد في منطقة شرق الفرات، هذا المنطق من حيث المبدأ يبدو صحيحاً، لكن هل يمكن “للمصالحة” مع النظام نسف هذا المشروع في شرق الفرات؟ الجواب لا. 

إذاً ما الحل؟ الحل يكمن في إعادة تركيبة المشهد وبرمجته من جديد، والدخول مع القوى السورية المعارضة المعتدلة في اتفاق استراتيجي بعيد المدى، لأننا نتحدث اليوم عن 200 ألف عسكري وضابط سوري منشق يسيطرون على الشمال السوري، بدءاً من إدلب وانتهاءً برأس العين، هذه الورقة تمنح القوة والصلابة لمواجهة كافة التحديات التي تحيط بها من كل صوب وحدب، كما يمكن لتركيا استثمار هذه الورقة لحماية أمنها القومي، ولا مانع في ذلك وفق فرضية المصالح المتبادلة، شريطة أن تكون الرؤية مشتركة ومتكاملة داخل سوريا وتركيا. 

بمعنى أن “التصالح” ربما يخفف أو يقلل من مخاوف أنقرة على المدى القريب، لكن على المدى البعيد ستكون النتائج عكسية لأننا هنا نتحدث عن لغة الأرقام وحجم الخسائر، فكل دولة تحاول الخروج من المعركة بأقل خسارة تذكر. 

الخلاصة 

التصالح بين الأتراك والنظام لن يفي بالغرض الذي يبحث عنه وزير الخارجية التركي، ومجرد التفكير بـ”المصالحة” مع نظام شرد 9 ملايين مواطن سوري هو خطأ في الحسابات والتقدير، وبالتالي لا حل أمام الأتراك إلا بإعادة التدقيق في الحسابات من جديد، والبحث عن شركاء حقيقيين من الكرد السوريين الذين يؤمنون بسوريا موحدة لكل مكوناتها، وإيجاد بديل سياسي لحزب العمال الكردستاني، ووقف تغلغله داخل المجتمع الكردي، ومنعه من التلاعب بعواطف البسطاء، وتجنيد المدنيين والأطفال خدمةً لأجنداته في المنطقة، فضلاً على تعميق العلاقة بشكل استراتيجي مع القوى السورية المعتدلة، فاستهداف المسيّرات لكادر هنا وهناك لن يأتي بالنتائج المرجوة منه، لأن مشكلة الحزب المذكور ليس في العدد وقلة الكوادر، فالمجتمع الكردي بات بالنسبة له “بقرة حلوباً” يتغذى منه يومياً، ويجنّد أطفاله لتعبئة الفراغ كما حصل نتيجة الحرب المستمرة منذ أربعة عقود، التي أودت حتى الآن بحياة الآلاف من الأبرياء وتهجير الملايين من قراهم وبلداتهم داخل سوريا وتركيا.

بالمحصلة، المنطق يقول إن الأتراك لن يتصالحوا مع هذا النظام مهما كلف الأمر، والتصريحات التي تصدر هنا وهناك ما هي إلا للالتفاف على الضغوطات الروسية، ويأتي في سياق حسابات انتخابية لا أكثر، ولعبة سياسية ومغامرة ربما تكون ناجحة أو لا، فتركيا الصاعدة في المنطقة  ستكون المتضررة الأكبر في حال فكرت بالتصالح مع هذا النظام، وما دامت سوريا تحت حكم “عائلة الأسد” فحزب العمال الكردستاني باقٍ رغماً عن إرادة الجميع، وستعيش تركيا حالة النزيف الاقتصادي بسبب الحرب المفتوحة التي تخوضها منذ عقود، لأن هذا الحزب أداة فتاكة وحادّة موجهة صوبها، حتى لو كان مخترقاً من قبلها فهذا لم يعد كافياً، وبالتالي لا تلبي الحاجة إلى الأمن والاستقرار، وأن أي تصالح مع هذا النظام هو خطأ في الحسابات والتقدير وحتى مجرد التفكير فيه، هو مضيعة للوقت لا أكثر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي تمي
كاتب وسياسي سوري
كاتب وسياسي سوري

زر الذهاب إلى الأعلى