مقالات و أراء

هكذا أقرأ السلوك السياسي للأتراك

1- ثمالة الأفعال لا الأقوال:


الممارسة السياسية في تركيا تختلف عن مثيلاتها في الوطن العربي.

هو اختلاف في النوع والدرجة معا، كما يتبدى لي وأيضا لأي مراقب متمرس على التقاط الرموز والإشارات.

الفعل السياسي التركي مبني على المنجز لا المحلوم به.في حين يتأسس العمل السياسي العربي على الممكن إنجازه لا المنجز فعلا على أرض الواقع.
الأتراك شعب لا ينتمي إلى (الظاهرة الصوتية) كما العرب.أي أن (العنترية الميكرفونية) ليست من أدوات الفعل السياسي ولن تكون.
هذا الشعب لا يتغنى بالأقوال، بل يثمل بالأفعال.

لذلك، لا يقبل المواطن التركي إلا السياسات الطموحة التي يمكن تنزيلها كبرامج عملية على الواقع.

2 – ثلاثية السلوك والاختيار
حين نتقصى السلوك السياسي للأتراك في كرّه و فرّه،نرى خصالا متعددة تشي بعمق وإدراك كبيرين.
يمكن تلخيص ذلك في:
أولا:
اختيار البرنامج السياسي لا الاسم السياسي.لأن البرنامج هو الفيصل وليس الشخص.
ثانيا :
أخذ مسافة نقدية من الفرق بين السياسة والسياسي، لمزيد من الإدراك لكيفية اختيار التوجه المطلوب ودعمه.
ثالثا :
مناقشة التصورات المطروحة قبل اتخاذ قرار بالانحياز إلى هذا التوجه أو ذاك التيار.

3 – خيار مبني على وعي وحرية:
السلوك السياسي هنا ينسجم، بل يقود إلى السلوك الانتخابي وينسجم معه شكلا ومحتوى.
المواطن التركي له سلوك انتخابي كيفي وليس كميا.لذلك هو يتقصى البدائل الممكنة والمستحيلة، قبل أن يضع صوته في خانة أو أخرى.
قد يخفق مرة، وهذا وارد في حقل الاختيارات السياسية، وقد ينجح مرات، وهذا أيضا من صميم الممارسة السياسية التي ينضجها الواقع، وتختبر عبر الممارسة.
لكن، وفي كلتا الحالتين، المواطن التركي يذهب إلى صناديق الاقتراع بكل وعي ومسؤولية وتصور سياسي ناضج، يتبدى مقتنعا بخياره الذي تبناه بحرية وعن دراية.

4 – يقود السياسة ولا ينقاد لها:
مع استثناءات طبيعية ومعقولة، وبالنظر إلى قراءة متفحصة للواقع السياسي التركي، في تجلياته ومظاهره ، يمكنني هنا القول بأن الشعب التركي (يقود) العملية السياسية في بلاده ولا (ينقاد) لها.
في المواعيد الانتخابية يشهر هذا الشعب ما أسميه (العقاب الانتخابي) في وجه كل تيار تخاذل عن تحقيق ما وعد به في برامجه السياسية.
من هنا، يمكن فهم واستيعاب أسباب الحيوية الفائقة التي يتمتع بها الأتراك على الصعيد السياسي.
إنها حيوية متأتية من القوة الانتخابية التي يشكلها المواطن التركي في مواجهة الوضع السياسي العام.

5 – ثقافة الوعي ووعي الثقافة:
يحلو لي دائما أن أبحث عن دينامية الأتراك ليس عبر ما يسلكونه من توجه سياسي، بل من خلال تجليات الخطاب السياسي للفاعلين السياسيين في الساحة.
إن محتوى الخطاب، في تمظهراته وإشاراته ومضمراته، هنا يشي بموقع المواطن التركي، ويجسد مكانته في عمق هذا الخطاب.
ذلك أن مفردات من قبيل الإيهام، التمني، الالتفاف، الغموض، لا ترد في خطاب سياسي يوجه إلى شعب متسلح بثقافة الوعي ووعي الثقافة.

6 – الفاعل لا المفعول به:
إن السياسة، باعتبارها تدافع مصلحي، قد تضطر إلى سلوك الإيهام بالحقائق، وتضخيم المنجزات الصغيرة وجعلها مكاسب عملاقة، في إطار الوصول إلى سدة الحكم، بعد كسب الأصوات..!!
بيد أن المواطن قد يكون فاعلا في الواقع، وقد يكون مفعولا به أيضا.
ما يثير الإعجاب أن الشعب التركي ظل فاعلا بعمق ولم يضع نفسه في موقف المفعول به.
هذا ما يتبدى عليه الأتراك على الأقل خلال العقدين الأخيرين من مسار هذا البلد الفائق الحيوية.

7 – وهم الحقيقة وحقيقة الوهم:
حين قال الرئيس رجب طيب أردوغان، ذات يقين:
نريد تركيا دولة قوية.ونريد الأتراك شعبا فاعلا وفعالا.
كان يؤكد بذلك حقيقة المواطن التركي الذي تحلى بسلوك سياسي ناضج أجبر الفاعلين السياسيين على احترام خياراته وانتظاراته وعدم الركون إلى وهم الحقيقة التي تصبح حقيقة الوهم.!!..
لعل اي جولة في شوارع تركيا، وتبادل حديث السياسة مع المواطن التركي يؤكد هذه الحقيقة ويرسخها.

8 ـ طموح الوثوق يوقع العهد مع الارادة لا يخونها

إن  تركيا المهزومة قبلا والموقعة على القبول بشروط المنتصرين(بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا والبرتغال وبلغاريا وبلجيكا ويوغسلافيا)منذ معاهدة لوزان التي نسفت معاهدة سيفر لعام 1920 .هي ذاتها من تجهر اليوم  :

حان الوقت  لقلب الموازين بكثير من المروءة و العزة الاقتصادية

الأهداف تتمحور وفقا لتصريحات الرئيس أردوغان،حول الارتقاء بالاقتصاد التركي ليصل إلى قائمة أعلى 10 اقتصادات على مستوى العالم، ورفع الناتج المحلي التركي إلى تريليوني دولار أميركي سنوياً، ورفع دخل المواطن إلى 25 ألف دولار أميركي سنويًا، وخفض معدلات البطالة لتصل إلى نسبة 5% وزيادة نسبة التجارة الخارجية لتصل إلى تريليون دولار سنوياً.متبوعة بسلسلة أهداف سياحية تتعلق باستقطاب 50 مليون سائح سنوياً، وزيادة عائدات السياحة لنحو 50 مليار سنوياً، وجعل تركيا من أفضل الدول الخمس الأولى الجاذبة للسياح، مرورا بتطلعات مشروعة ومدروسة غايتها المأمول على مستوى المواصلات الذي يركز على إنشاء سكك حديد  تصل لنحو 11 ألف كيلومتر، والاهتمام بالموانئ والأنفاق والجسور وبناء المطارات …

9ـ فيض المرتجى.مراس موصول بالأهداف الضخمة

كانت الانتخابات التشريعية مدخلا لي للإيغال أكثر  في السياسة”الأردوغانية”التي أحسبها تجربة نضّاجة تقع خارج أسيجة المتداول والمكرس العربي ،كونها أولا

تنبع من تجربة تستجيش المبتكر وتسترفد الخلاصة .ولأنها ثانيا تتفرس في ممكنات الواقع وتتجاوزه الى تحولات الحياة وتبدلات المصائر ،فيما الرهان كان ولم يزل تركيا المنبع والمصب مع تفعيل الانفتاح على الأبعد والأصلح بما يخدم الاتراك الآن وابدأ.

فهل ننأى أم نزداد إيغالا في القرب؟

10: رجل انتزع الاعتراف وكان حجة فحقّ التعويل عليه

لاشك أن نجاح الرئيس أردوغان،بتعديل الدستور الذي حول النظام التركي إلى نظام رئاسي بمباركة غالبية الشعب التركي المصوت لصالح حملة “نعم” ،المؤمن بعبور  تركيا نحو تاريخ الانعثاق (2023)،أقلق..بل هجّج المتربصين بتركيا وأمنها واستقرارها …بل وأفقدهم”السيطرة،ولم تنفع كل شراستهم للتخلص من “رجل لم يعد مريضا”،رجل لم يكن قط انبطاحيا ليضمن لهم لوزان جديدة. رجل  يعيد المبعثر إلى السياق بالمعنى الأكمل ” للبشارة”,!! .

رجل كلما تسنم موقعا في جغرافية السياسة العالمية كلما راكم وجدانه في دواخل محبيه الكثر ،يبدأ عنده على غير المعهود في غيره الشعور بجسامة المسؤولية .هكذا يتورط أكثر وأغزر في الإجادة،الصفة العلوقة به بتفوق لافت،وتوثب دال على ما سيأتي..رجل يرى أوضح فيخطو أعمق .!! ..

تلك هي قيمة السياسة ،حين تعثر على ذاكرة موّارة  لا تهاذن ..ذاكرة لا مد يجزها ولا جزر يجعلها تنسى أن النجاح في قيادة الدول صوب التألق العالمي والنهوض الذاتي،لا يمكن أن يتحقق دون قائد مؤمن بوطنه،وشعب فهيم داعم للحق .

شعب يدرك أن المعاطف المتقلبة،و الازدواجية، والأقنعة، والوجوه المستعارة…ليست الحل البديل..بل هي أشكال وممارسات بشعة ولا تبني إلا هياكل فارغة من اوطان خراب !! .

 

الكاتبة: ناهد الزيدي – تركيا الآن

زر الذهاب إلى الأعلى