أخــبـار مـحـلـيـةمقالات و أراء

هل ابتدع العثمانيون عادة إمساك الخطيب سيفا في يده؟

-زعم خصوم الدولة التركية بحاضرها وماضيها، أنها رسالة إرهابية يبثها الأتراك تدل على أنهم أصحاب أطماع استعمارية في المنطقة، وأنهم مبعوثو الدمار في كل بلد تكون لهم فيها يد. 
-لم ينتقد هؤلاء حمْل ملوك السعودية السيف ورقصهم به في “العرضة السعودية” التي تتم في المناسبات الوطنية ولم يقولوا أنها رسائل إرهاب. 
-لم ينتقد هؤلاء حمْل ملكة بريطانيا السيف ووضعه بمحاذاة رقبة من تُوشّحه وساما أو منصبا أو لقبا وهو جاثٍ على ركبته. 
-تركيا لن يفيدها بث رسائل إرهاب تستجلب لها مزيدا من العداوات التي برزت في طريقها النهضوي لعرقلتها عن إتمام مسيرتها. 
-مع أن الأتراك يقولون إن الاتكاء على السيف أثناء الخطبة عادة عثمانية، إلا أن هذه العادة جاءت في كتب المذاهب الفقهية المعتبرة، وليست كما يدعي هؤلاء من أنها بدعة تركية. 
عام 1453م؛ زُيِّنت شوارع العواصم الإسلامية، ودُقت فيها الطبول، وابتهج المسلمون بتحقيق البشارة النبوية بفتح القسطنطينية؛ بعد أن زف فاتحها محمد بن مراد النبأ إلى حكامها عبر رسائل تفوح برائحة الوحدة الإسلامية.

ذلك الفتح الذي شهد تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، وصلى فيه الفاتح أول صلاة جمعة، وألقى معلمه آق شمس الدين أول خطبة فيه، كما ذكر المؤرخ محمد حرب.

 

التاريخ الآن يعيد نفسه؛ فقد ابتهجت الشعوب الإسلامية لعودة الصلاة في آيا صوفيا بعد انقطاع دام أكثر من ثمانين سنة بسبب تحويله إلى متحف، وشارك المسلمون في شتى بقاع الأرض إخوانهم الأتراك فرحتهم العارمة، واعتبروا ذلك فتحاً جديداً لإسطنبول.

ولأن الحسنة إن مست المسلمين ساءت غيرهم؛ فلم يرق للبعض فرحة المسلمين بهذا الحدث الجليل، وزاد في حنقه مرأى الجموع الهادرة وهي تصلي أول صلاة جمعة في مسجد آيا صوفيا، وبينهم الرئيس رجب طيب أردوغان؛ فأخرجوا أضغانهم تجاه المشهد، وتفننوا في كيفية التشهير بصنيع الأتراك.

واتجهوا هذه المرة إلى رئيس الشؤون الدينية على أرباش الذي خطب لأول مرة بعد 86 سنة على منبر آيا صوفيا ممسكاً سيفاً عثمانياً بيده.

 

زعم الحاقدون أنها رسالة إرهابية تدل على أن الأتراك أصحاب أطماع استعمارية في المنطقة، وأنهم مبعوثو الدمار في كل بلد تكون لهم فيها يد.

وعلى إثر ذلك، زعم البعض أن ما فعله خطيب آيا صوفيا، إنما هو “بدعة تركية ابتدعها الأتراك لإظهار حقهم في الحكم بالسيف، وإعادة الشرعية للخلافة العثمانية، واغتصاب أراضي الدول العربية والإسلامية”، بحسب مزاعمهم.

وثمة سؤال يفرض نفسه في هذا المقام: هل مجرد حمل السيف في هذه المناسبة يُعد رسالة إرهابٍ يبعثها الأتراك للعالم؟.

إن كان حمْل السيف في هذه المناسبة رسالة إرهاب، فإن ملوك السعودية يبثون العديد من رسائل الإرهاب حين يرقصون بالسيوف في “العرضة النجدية” أو “العرضة السعودية”، وهي رقصة شعبية تؤدى في المناسبات والأعياد بالمملكة وتعد جزءًا من تاريخ الجزيرة العربية وأهازيج الحروب فيها.

ثم ارتبطت هذه الرقصة- حديثاً- بتأسيس الملك عبد العزيز بن سعود للدولة السعودية وتوحيدها؛ حيث يشارك الملك نفسه بالرقص بالسيف في المناسبات المختلفة.. فهل يعد حمل السيف في هذه المناسبات الوطنية رسالة إرهاب؟.

وهل عندما شارك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الملك سلمان بن عبد العزيز ملك السعودية رقصة العرضة بالسيف؛ كان مشاركاً في بث رسائل الإرهاب؟.

وعندما تتبع ملكة بريطانيا تقاليد أسلافها وتُكرّم رجال المملكة أو تمنحهم ألقاباً رفيعة بوضع السيف بمحاذاة رقابهم وهم جاثون على رُكَبهم أمامها؛ فهل يعد هذا التقليد- الذي يتضمن إشهاراً للسيف- رسالة إرهاب؟.

هل يقول عاقل في الأرض إن تركيا تريد بث رسالة إرهاب لتعادي العالم بأسره؟ هل تريد تركيا استجلاب المزيد من العداوات التي برزت في طريقها النهضوي لعرقلتها عن إتمام مسيرتها؟.

لماذا تُحترم تقاليد كل الدول وعاداتها، بينما يتم وضع هذه العادات تحت المجهر ويسلط ضوء الهجوم والانتقاد عليها إذا تعلق الأمر بتركيا؟!!.

عندما قاد مقدم البرامج التلفزيونية البريطاني؛ آلان تيتشمارش-ومعه رجال يرتدون أزياء العصور الوسطى- قطيعاً من الخراف على جسر لندن شاهراً السيف إحياءً لتقليد يعود للعصور الوسطى، قيل: إنه احترام لعادات المجتمع البريطاني القديمة، وعندما يرتدي الأتراك في مناسباتهم أزياء عثمانية ويمسكون السيف، أو يفعلون ما فعله خطيب آيا صوفيا، يقال حينئذ: استعادةٌ لماضي العثمانيين، ودليل على نوايا التوسعات الاستعمارية.

ومع أن الأتراك يقولون إن الاتكاء على السيف أثناء الخطبة عادة عثمانية؛ إلا أن هذه العادة جاءت في كتب المذاهب الفقهية المعتبرة، وليست كما يدعي هؤلاء من أنها بدعة تركية.

ولئن كان هذا الموطن ليس موطن مباحث فقهية؛ إلا أن الأمر يستدعي بيان هذه القضية لدى المهتمين بها؛ حتى يعرفوا أن خطيب آيا صوفيا لم يتجاوز حدود الفقه الإسلامي المعتبر في حمْله السيف واعتماده عليه أثناء خطبة الجمعة.

ينبغي العلم أن كثيراً من الفقهاء يرون مشروعية الاعتماد على السيف أثناء خطبة الجمعة؛ فمنهم ابن قدامة في كتاب المغني حيث قال عن الآداب التي يتبعها خطيب الجمعة: “وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى قَوْسٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ عَصًا”.

وقال النووي في كتاب المجموع شرح المهذب: “يُسَنُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ عَصًا أَوْ نَحْوِهَا”.

وجاء في كتاب الإنصاف’ وهو من كتب الفقه الحنبلي-: “وَيَعْتَمِدُ على سَيْفٍ أو قَوْسٍ أو عَصَى”.

وقال البهوتي الحنبلي في كتاب كشاف القناع: يُسَنُّ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى سَيْفٍ أَوْ قَوْسٍ أَوْ عَصًا بِإِحْدَى يَدَيْهِ”.

وجاء في كتاب الاختيار- وهو من كتب الفقه الحنفي- في سياق الحديث عن خطبة صلاة الاستسقاء: ” ثُمَّ يَخْطُبُ مُتَنَكِّبًا قَوْسًا أَوْ مُعْتَمِدًا عَلَى سَيْفِهِ”.

وقال القزويني في كتابه فتح العزيز: “ومنها- أي من آداب الخطبة- أن يعتمد على سيف أو عَنَزَة؛ وهي شبه الحربة أو عصا أو نحوها.

وقال ابن النقيب الشافعي في كتاب عمدة السالك: “ويعتمدُ على سيفٍ أوْ قوسٍ أوْ عصا”.

وقال ابن حجر الهيثمي في كتاب تحفة المحتاج: “وَأَنْ يَعْتَمِدَ فِي حَالِ خُطْبَتِهِ عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصًا وَنَحْوِهِ كَالْقَوْسِ”.

وقال شهاب الدين النفراوي المالكي في كتاب الفواكه الدواني: “يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَكَّأَ الْإِمَامُ أَيْ يَعْتَمِد حَالَ خُطْبَتِهِ عَلَى عَصًا أَوْ سَيْفٍ أَوْ قَوْسٍ”.

ولولا ضيق المقام لزدنا القارئ من كتب الفقه المعتمدة في المذاهب الأربعة حول مشروعية إمساك الخطيب بسيف في يده، خلافاً لما لزعم الحاقدين بأنها بدعة عثمانية.

ليست الزوبعة المثارة حول أحداث ووقائع آيا صوفيا هي الأولى في سياق الهجوم المتتابع على تركيا، وليست الأخيرة كذلك، طالما أن تركيا خرجت من عباءة التبعية لغيرها، وتنتج- بسواعد أبنائها- غذاءها ودواءها وسلاحها، وتتخذ قراراتها بعيداً عن تيار المنبطحين.

احسان فقيه – اناضول

زر الذهاب إلى الأعلى