أخــبـار مـحـلـيـة

هل يستطيع الأجنبي أن يتكلم عن قضيته؟ عن حضور وغياب فلسطين في تركيا اليوم

بينما أجلس أنا وصديقي العزيز في أحد مقاهي إسطنبول، وفي صمت وارتباك شديد قد خيّم على المدينة، نتحاكى حول مستقبل تركيا وبعض المشاكل النفسية والأسرية كما المسائل التي تتعلق بالوطن العربي، التقطت آذاننا نقاشاً حاداً يدور على الطاولة المقابلة لنا حول القضية الفلسطينية وما سمعناه مفاده أن أحد الشبّان الأتراك يؤيد ممارسات إسرائيل كما عبّر.

 

أصابتنا صدمة مع خيبة أمل عند سماع ذلك، فنحن في بلد يعتبر نفسه في العقدين الأخيرين، على المستوى السياسي، وجزئياً الشعبي، كتفاً حاملاً لبعض هموم القضايا الإسلامية، على مستوى الخطاب والموقف، أو على الأقل، أنه لا يقف صامتاً دون موقف.

التفتنا موجهين أنظارنا نحو الطاولة، وإذا بصديقي ينتفض من مكانه نحو الطاولة قائلاً: “سمعت للتو أحدكم يتحدث عن فلسطين وإسرائيل، هل أنت مؤيد لوجود الاحتلال؟”.

كان التركي ساذجاً إلى حد ما، لأنه وكما بدا لي لا يفطن ما يقول؛ إذ إن ردوده كانت تدور حول رفضه لقتل المدنيين أيّاً كانت جنسيتهم، فهو يرفض اقتحام الفلسطيني الأراضي الفلسطينية المحتلة كما أسر المستوطنين، لكنّه كان اختزالياً واقفاً عند اللحظة الراهنة، فيما لم يستحضر عقوداً من القتل المستمر والاعتداءات “الهمجية”، بما فيها من قصف وقتل للمدنيين الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني.

 

 

لا يخفى على أحد الاستحقاقية التاريخية والراهنة للأراضي الفلسطينية للشعب الفلسطيني، ولا يُنكِرُ أحد أيضاً الصراع العربي الإسرائيلي في المنطقة، بل العداوة التاريخية والحاضرة، لكنّ حديث الشاب التركي ذهب بعيداً؛ إذ إنه اندمج داخل الخطاب العالمي الإثنو-أوروبي، أي المتأثر بالمركزية الأوروبية والأمريكية المتحالفة بكل ما تمتلك من موارد سياسية واقتصادية وعسكرية مع وجود دولة إسرائيلية على أراضٍ فلسطينية بالأساس، متخذة بذلك من الخطاب الأخلاقي الذي يرفض إدماج المدنيين في الحرب مرجعية، وخصوصاً في الحرب الأخيرة التي نشهدها اليوم.

 

أفهمُ رد الشاب التركي ومنطق تفكيره في القضية عند العودة إلى المكوّن الهوياتي للشعب التركي، الواقع بين هوية عربية شرق أوسطية من ناحية وأوروبية من جانب آخر، والطامح في الثانية ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً. بعبارة أخرى، لا تُدرك فئة من الشعب التركي واقع تموضعها في مأزق هوياتي بين الشرق والغرب كما يُخبرنا داوود أوغلو، وعوضاً عن ذلك، تحاول هذه الفئة الهروب من ذلك الواقع من خلال تفضيل خيارها الثقافي باختيار أوروبا كمنظومة ثقافية وأخلاقية بوصفها ملجأً مؤقتاً لتصفية الحسابات الذهنية غير المحسومة إلى الآن. كان ذلك هو الوضع عند هذا الشاب، الذي بدا متحمساً لمفاهيم حقوق الإنسان ورفض قتل المدنيين بشكل واضح، كما أن هذا الاختيار خلق منه ازدواجية معيارية هي أوروبية-أمريكية بالأساس.

الأمر الآخر، أن الموقف السياسي التركي تاريخياً، بقي متبنّياً وجهة النظر الأوروبية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهذا ما كان عليه السياسيون الأتراك في منتصف الخمسينيّات على سبيل المثال عندما اعترفت تركيا بإسرائيل، كما استمر هذا الاعتراف بأشكاله المختلفة حتى فترات متقدمة، مع عدم إنكار التصعيدات الخطابية، خصوصاً تلك التي تتبناها أفواه الإسلام السياسي التركي في حقبتي أربكان في الماضي وأردوغان اليوم. وبالعودة إلى التاريخ السياسي التركي، يبدو أن موقف فئة من الأتراك لا يبتعد كثيراً عن تصور الأجهزة الحكومية السياسية التركية تاريخياً للقضية الفلسطينية، فالبعض قد اعترف، والبعض الآخر، يُحدثنا: “لماذا نهتم؟!، والبعض الآخر، قد قام بدعم القضية الفلسطينية على المستويين الخطابي والإنساني على أقل تقدير، مثلما يقوم أردوغان اليوم متبنياً خطاباً سياسياً بالدرجة الأولى.

 

عاد صديقي المصري إلى الطاولة حيث نجلس بعد ما انتهي الحديث بينه وبين الشاب التركي، ليعود الشاب مع عدد من أصدقائه إلينا مرة أخرى شارعاً في نقاش من نوع آخر قائلاً: “أنت أتيت إلى طاولتنا منذ قليل لتحدثنا عن فلسطين وإسرائيل، لكنك لا تملك الحق لفعل هذا!”. كانت تلك الكلمات صادمة ومباغتة لي في الوقت نفسه، فأنا لم أفهم ما يمنع صديقي من إبداء رأيه في قضية هي عربية بالأساس، أي أنها تهمني كما صديقي بوصفنا مسلمين عرباً، أكثر منها إلى التركي، الذي ربما تعود أصوله إلى الشركس. لكنّ ما اتضح لنا فيما بعد أن الشاب التركي لم يقصد عدم استحقاقية صديقي في الاعتراض على رأي شاب تركي في قضية عربية، بل إن اعتراضه كان على الحق في الدخول في نقاش على طاولة يجلس عليها خمسة أتراك فيما إن صديقي عربي مصري.

حاولتُ أنا وصديقي امتصاص ذلك الغضب غير المبرر من خلال عدة طرق أو وسائط، مثل أن التركي يبدو عليه أنه متعلم، وبالتالي، لديه قدر من التفهم، ما جعل صديقي يُقبِلُ على النقاش معه، لكنّ رأس المال البشري الذي امتلكه التركي لم يكن شافعاً لتفهم مثل ذلك الأمر، أو بالأحرى إظهار استعدادية للنقاش المتبادل في حد ذاته. أخبرنا التركي أيضاً، بأن سبب انزعاجه من حديث صديقي يتعلق بشكل مباشر بأننا أجانب في هذا البلد، والذي هو من وجهة نظره مبرراً لرفض منح صديقي الحق لإبداء رأيه في قضية تهمه أكثر من التركي الطامح في هوية أوروبية والهارب من الأخرى الشرق أوسطية.

تحدّث الشاب التركي بكلمات ثقيلة وصادمة قائلاً: “أنت مصري لا تنتمي إلى هذا المكان، لماذا تتكلم معنا!”. ما يقصده أن عدم انتماء صديقي المصري لتركيا ثقافياً واجتماعيّاً كفيل بسحب استحقاقية التدخل في أي شأن يحدث داخل تركيا؛ سواء إبداء الرأي في شأن تركي داخلي، أو الاهتمام بتحليل آراء الشخصيات التركية الهامة على الساحة أو فتح أي نقاش بخصوص التركي وتركيا معاً. لم أتفهم ذلك المفهوم للانتماء، الذي لا يستند على أرضية صلبة، بل لا يستند على أي شيء، إذ إنه يخلط العنصرية بالانتماء، فما يتحدث عنه التركي ليس له علاقة بانتماء الأجنبي لبلد أو مكان أو ثقافة ما، بل يتعلق بمنح ابن البلد الحق في السيطرة على الأجنبي بدنيّاً وفكرياً، لدرجة تصل إلى حد السيطرة على الكلمات التي تخرج من الأفواه، فكما لو أن الشاب التركي يقول في صمت: “لي الحق في السيطرة على الكلمات التي تخرج من أفواهك أنت الأجنبي”. هذا تفسيري لكلمات الشاب التركي، الذي يُنكر على صديقي انتماءه لتركيا بالرغم من أنه أكمل تعليمه الجامعي في تركيا، كما أنه متقن للغة التركية، فضلاً عن أن حضوره في البلد لمدة تخطت عقداً من الزمن من المتوقع أن يُكسبه شرعية وقبول الكثير من أبناء البلدان المضيفة في سياقات مختلفة، بل إن تلك العوامل تمنح الأجنبي استحقاقية سياسية/قانونية وثقافية معاً، أي تعترف به بشكل كلّي.

 

ودائماً ما تحدثنا الأدبيات في دراسات الهجرة أنه ثمة علاقة بين مستوى التعليم وقبول الأجانب، أي فهمه بوصفه مندمجاً داخل المجتمع المضيف، كما أن عامل الطبقة يلعب دوراً لا يقل أهمية، فالاحتكاك بأصحاب الطبقة المتوسطة من السكان الأصليين يحدّ من إمكانية رفض وجود الأجنبي، فيما يزيد من احتمالية قبوله بوصفه منتمياً للمجتمع المضيف، فما بالك برفض الاعتراف بالحق في إطلاق كلمة أو رأي، وليس حُكماً يضع الأجنبي في مأزق ثقافي وفكري أمام ابن البلد.

أعي بكارثة المشهد الاجتماعي في تركيا منذ ما يقارب العقد من الزمن، إذ تضح ملامح الاستقطاب الاجتماعي على عديد من المسائل الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، ومنها مسألة الهجرة واللجوء إلى تركيا، كما أمور عدة تطلب مقالات أخرى. كما نعي أن الجمهورية التركية قامت على عدد من المبادئ منها “القومية”، وإن صح التعبير النسخة “المفرطة” منها، ما يؤدى إلى فهم “الاختلاف” بشكل مغاير لما هو عليه في بعض البلدان متعددة الإثنيات كحال تركيا الأمس واليوم وغداً.

وإن التركي القومي اليوم لا يضع مفهوم “الاختلاف” في مركز تفكيره فيما يتعلق بـ”الحالة الطبيعية” لتفاعل ابن البلد مع الأجنبي، وعوضاً عن ذلك فهو يستعيد وحدة الفكر والأرض، التي تتصور كل من على الأرض بوصفهم كتلة واحدة، كما ترفض الآخر- أي آخر-، فضلاً عن أنها تتمسك معيارياً وأخلاقيّاً بمفهوم واحد لما هو صواب، فكما حدّثني أحد الأصدقاء المصريين منذ عام عندما كنت في مرحلة إنجاز رسالة الماجستير: “التركي عنده صح واحد بس، الصح بالألف واللام، مش مستوعب إن ممكن يكون في حد تاني غيره بيقول كلام صحيح”.

وفوق هذا كله، فإنّ الآخر فكراً حسب فئة الأتراك من المتمسكين بنوع من القومية المفرطة، ما هو إلّا نفايات فكرية، أو ثقافية إن صحّ مثل ذلك تعبير، ما يعني ضرورة التخلص منه لعدم الإضرار بالمعايير الأخلاقية للمجتمع التركي في نسخته القومية الأشد إفراطاً، مع الأخذ في الاعتبار وجود مجتمعات تركية داخل المجتمع الكبير، تلك الكثيفة بالدلائل والفرعيات مثل المحافظة واليسارية والمحافظة وغيرها. ذلك الفهم للآخر من ذلك المنظور على وجه التحديد، يخلق أمامنا نظاماً اجتماعياً فوضوياً على المستويين الثقافي والفكري، يزداد شدّة كلما أخلت السياسات العامة والثقافية لتركيا مسؤوليتها تجاه مسألة التفاعل السلمي مع الأجنبي، ويتلاشى مع عامل الزمن، كلما أظهرت الحكومات والمؤسسات السياسية والثقافية جدية واضحة من أجل مجتمع يعي تعدديته الثقافية والعرقية التي تشمل الترك والعرب والكرد وغيرهم، غير متهرّب بذلك من تاريخه القديم وحاضره القائم.

وبهذا، فإنّ المأساة التي يعاني منها المجتمع التركي في نسخته القومية في تفاعله مع الأجنبي تتعلق بوجه ما بمسألة مَفهمة الانتماء، أي تحديد التركي للأجنبي المنتمي عن غيره، كما بالاندماج، المتعلقة بفهم المندمج عمّن سواه. وإن الأزمة الهوياتية التي يُعاني منها المجتمع التركي، تُشكّل إرباكاً عندما تتقاطع هويته الإثنية التركية مع الأخرى الدينية المسلمة، وفيما أن الأولى غير قابلة للتفاوض، فإن الثانية إمّا أن تلقى اعترافاً غير محدود أو رفضاً مطلقاً.

ختاماً، يُعد تقاطع أحداث القضية الفلسطينية كما مواقفنا منها مع موقعنا واتجاهاتنا في بلد أجنبي، غير عربي مُسلم، من الناحية العددية، كاشفاً للكثير: أولاً، مركزية القضية الفلسطينية عند العربي المسلم، وهو أمر غير قابل للتفاوض، ثانياً، تأرجح الاهتمام بقضية إسلامية/عربية بالنسبة للتركي، ثالثاً، عدم الاكتراث بها عند بعض القوميين، وهذا بسبب الحرب الثقافية/الدينية بين الذهنيات التركية المختلفة، رابعاً وأخيراً، حدود المنظومة الذهنية القومية “شبه الأوروبية” التي احتوت هامشاً من المجتمع التركي، وهو ما يبدو واضحاً في بعض الأوساط التركية اليوم حينما يتعلق الأمر بالتفاعل أخلاقياً وسياسياً واجتماعياً مع القضية الفلسطينية.

وأخيراً، تبدو بعض الأسئلة بحاجة إلى إعادة النظر: “هل للأجنبي الحق في التعبير عن نفسه وعما يدور حوله في تركيا اليوم؟”، و”كيف يمكن الحصول على استحقاقية ثقافية تتخطى القانونية وتعترف بالحضور الذهني والثقافي والفكري للمغترب العربي على الأراضي التركية”؟ وأخيراً، هل من حل للهويتين التركية والإسلامية عند القوميين الأتراك؟، أي بعبارة أخرى: “هل يمكن أن يكون القومي التركي الأبيض أو نصف الأبيض قومياً مسلماً في الوقت نفسه؟، بالمعنى التضامني على أقل تقدير، حتّى وإن لم يعترف بانتمائه التاريخي والراهن للهوية الإسلامية.

 

 

عمر عابدين
باحث في علم الاجتماع

زر الذهاب إلى الأعلى