مقالات و أراء

أزمة اللافتات في تركيا بين المكاسب الشخصية والحقائق التاريخية

لو استطعنا الوصول إلى اختراع نُبصر به دخائل النفوس، ونطَّلع به على خبايا الأفئدة لراعنا الفرق بين ما تُضمر وما تُظهر، وَنالنا التناقض بين ما تكشف عنه الأعماق وما تُبديه لنا المظاهر.

فارق كبير بين العمل على إثارة الحقائق الكامنة في النفوس ومحاولة إثارة الجهل الداخلي، فالأول يحدث عبر تسلسل طويل وتدرّج منطقي خطوة بخطوة بعيدًا عن الطفرات، بينما لا تحتاج إثارة الجهل أكثر من إشارة يسيرة للغواية على يد أي شخص قريب من الشخص المستهدف أو الفئة المستهدفة، ثم يأتي دور التوجيه والتشجيع بوساطة آخر، والحقيقة أن الناس أحيانًا يتوافقون ويتكتلون حول أفكار ساذجة وينقادون خلف تأثير الجماعة دون وعي، في صورة إنسانية متدنية تهوي بالبشرية التي من المفترض أن توظف عقلها وضميرها لفهم الأمور، ولا شك أن التحالف على أفكار ساذجة بدلًا من الاستنارة بالعقل والضمير أمر يمثل أدنى مستويات الإنسانية، ولو فكرنا قليلًا لرأينا كيف يمكن أن يكون مصير مثل تلك التصرفات كارثية بالنسبة لصاحبها الذي يسلك طريقًا خلف آخرين بلا تفكير، في لحظة ينسى أنه يحمل رأسًا على كتفيه وأنه بإمكانه، بل يجب عليه التفكير بذلك الرأس، وفي الوقت ذاته يتجاوز فضائل كثيرة كالشهامة والرحمة وغيرهما من الأخلاق الحسنة.

إنها فكرة علم نفس الجماهير وثقافة الاعتداء الجماعي والقتل خارج نطاق القانون، وتحوُّل الناس إلى قطيع يسير خلف زعيم الجماهير أينما سار، ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في الأيام القليلة الماضية حينما هاجم نحو 50 شخصًا طفلًا يمنيًّا في سن الخامسة عشرة بعد انتهاء مشاجرة بينه وبين طفل آخر، حيث اقتحم الجماهير المكان وهاجموا الطفل اليمني دون تفكير. في صورة واضحة لنتائج ثقافة الاعتداء الجماعي للجماهير، حيث لا عقل ولا ضمير ولا شجاعة ولا أدنى قيمة، فطفل صغير بين 50 شخصًا يركض في حيرة وذهول، إنه منظر مرعب بكل معاني الكلمة.

ولا شك أن هذه المناظر التي تشهد زيادة في الآونة الأخيرة بأشكال مختلفة في إشارة إلى تطور خطير تتطلب الانتباه والتفكير العميق، ففي وقت من الأوقات قد بات الهدف من عمليات الاعتداء الجماعي والقتل خارج القانون غير مهم، فقد اتجهوا بالاعتداء اليوم ضد اللاجئين والأجانب، ويمكن أن يتحول ذلك قريبًا إلى عادة، وسرعان ما يصير أمرًا معتادًا وحينما لا يبقى هناك أجانب فسيتجه الاعتداء والقتل نحو أهليهم وإخوتهم.

قبل شهر تقريبًا قلتُ: “لا تعتقدوا أن بلدًا أصبح لا يقبل وجود السوريين على هذا النحو، سيكون بلدًا يستطيع مواطنوه العيش فيه براحة وأمان أكبر”، وفي تلك اللحظة تعالت ضوضاء داعمي فتنة الاعتداء والقتل خارج نطاق القانون نفسه بالهجوم الذي لا هدف له سوى إحداث فوضى، وتهديد الأمة التركية بما يسعى خلفه من إثارة الخلاف السياسي بالافتراء والاستفزاز وبث الكراهية بين أفراد الأمة، لتحقيق أغراض خاصة ومكاسب سياسية، وبالطبع بعد أن يحصلوا على مكاسبهم جراء معاملتهم غير الإنسانية للأجانب سيتباهى هؤلاء بما يسمونه انتصارًا -وهو في الحقيقة ظلم للأمة والإنسانية كلها- وتزداد جرأتهم تجاه الأمة نفسها.

واستمرارًا لظاهرة الاستفزاز كان هناك هدف آخر لهذه العقول المحرضة والداعمة للفتنة، وهو اللافتات المكتوبة باللغة العربية، ففي الأيام الأخيرة أثارت الحرب التي شنتها بعض البلديات ضد تلك اللافتات موقفًا سخيفًا وصورة مشينة تجعلنا مثار سخرية في العالم كله، وفي هذا السياق نجد هارون أرسلان الذي كتب لمدة طويلة في وسائل الإعلام في مدينة مرسين إحدى المدن التي وقعت فيها حوادث إزالة اللوحات المكتوبة باللغة العربية، وقد أشار إلى “الطبيعة المأساوية الهزلية والكوميديا الكئيبة للادعاء بأن هذه الحوادث تمت لحماية اللغة التركية”، ولفت أرسلان الانتباه إلى إسقاط اللافتات العربية فقط دون غيرها من اللافتات المكتوبة باللغة الروسية والإنجليزية والفرنسية التي حافظ الفاعلون على حرمتها ولم يمسوها. رغم أن اللافتات العربية في تركيا لا سيما في مرسين كانت مظهرًا من مظاهر التنافس بين رجال الأعمال لاستقطاب السياح العرب حتى قبل بداية الأحداث السورية.

وفي الحقيقة أن الذين يزعمون أنهم يتحركون من أجل حماية اللغة التركية ليس لديهم أي ارتباط باللغة التركية، فليس هناك أي لغة تحمى بهذه الطريقة، ولو ألقينا نظرة على بعض دول العالم فسنجد على سبيل المثال في الولايات المتحدة، وهي بلد متقدم أكثر منا بكثير، لا توجد لافتات إنجليزية تقريبًا في مناطق الصينيين، ولم نسمع أو نرَ من يهاجم اللافتات المكتوبة بالصينية أو الإسبانية أو العربية تحت شعار حماية اللغة الإنجليزية، وبالمثل في ألمانيا، هناك لافتات مكتوبة باللغة التركية كثيرة في بعض المناطق التي يعيش فيها الأتراك وهي لافتات تعبّر عن لغة الأتراك وثقافتهم، وهي قد تبدو غريبة بالنسبة للألمان، ولكنها لا تشكل أي تهديد لهم أو للغتهم، ولم نر أو نسمع من قبل أن الألمان يكافحون ضد اللافتات التركية لحماية اللغة الألمانية، وهم بالطبع لديهم حساسية وتحفظات وسياسات خاصة لتعليم اللغة الألمانية.

كما ألقى صديقنا يوسف كابلان الضوء على هذه المسألة بشكل جيد ومفصل، فأشار إلى أنه من السخف أن يتم تنفيذ هذه السياسات من أجل حماية اللغة التركية، وتساءل: من تريدون أن تحموا اللغة التركية منهم؟ هل تعرفون كم عدد الكلمات العربية الموجودة في اللغة التركية؟ في اللغة التركية المستخدمة في الحياة اليومية والعملية حاليًا هناك حوالي 7 آلاف كلمة عربية، فإذا حذفتم الكلمات العربية جميعها من اللغة التركية كما حاول البعض في الماضي، فلن تتمكنوا حتى من بناء جملة تركية صحيحة، حتى أن كلمة “جملة” في النهاية هي كلمة عربية.

بالإضافة إلى ذلك، وعلى حد تعبير يوسف كابلان: “استمدت اللغة التركية كثيرًا من لغة القرآن العربي وأصبحت صوتًا للحقيقة بعد أن اعتنق الأتراك الإسلام، وأعادوا بناء اللغة التركية لغة حضارية جديدة بالاستعانة بلغة القرآن العربي والعربية، ولذلك صنعوا على مدى ألف عام ليس فقط تاريخ الإسلام وإنما تاريخ العالم أيضًا. علاوة على أن اللغة التركية صارت شعرًا يخاطب الروح والقلب بعدما استفادت من لغة القرآن العربي، ومن هنا أصبحت رمزًا للعدالة والإنصاف والأخوَّة في تجربة حضارية رائعة عالميًا تكفل حقوق الحياة للجميع، ولا تحاول إقصاء أو محو جذور أي حضارة مثلما فعل الغرب، بل قدَّم الأتراك تجربة حضارية رائعة لم يتم استيعابها بعد…”.

ويركز يوسف كابلان أيضًا على جهل من يظن أن الأبجدية اللاتينية هي الأبجدية التركية الأصلية، ومن المؤسف أن هذا الجهل مستمر، لأن السياسة من خلال التأثير في الجماهير يمكنها الاستمرار فقط من خلال نشر الجهل وتعزيزه.

نبني من الأقوال قصرًا شامخًا … والفعل دون الشامخات ركام

في تركيا هناك من تغاضى عن التزامن بين حركة “التغريب” المبالغ فيها وبين حركة بناء الوطنية التركية الذي كان قائمًا على قدم وساق، وكذلك تجاهلهم -في تناقض صارخ- عن أن هويتهم الوطنية التي يفخرون بها قد تحققت أيضًا بالتوازي مع التخلي عن طبيعتهم وكونهم أنفسهم وتجاوزهم لذاتهم. رغم وضوح ذلك وعدم إمكانية تجاهله أو التغاضي عنه، فالهوية الوطنية التي يدعون لها من أجل تركيا طالما استدعت الابتعاد عن الهوية العميقة التي استمرت لألف سنة، واقتضت أن تصبح أكثر تشبُّهًا بالغرب لدرجة أنه لم يبق لدينا قيمة أصيلة نقدمها للبشرية، وهذا بالضبط هو وصف “آرنولد توينبي” لتركيا: تركيا التي قلّدت الغرب لم تتمكن من أن تصبح مثل الغرب، ولم تبقَ على حالها، ولم يبقَ لها أي فكر أصيل.

وكذلك فإن عالم الاجتماع “سلمان سيد” المعروف بأبحاثه حول عملية التحول الحديث في تركيا، قد عبّر عن هذا التناقض في جهود تركيا للتشبه بالغرب على النحو التالي: بذلت تركيا جهودًا مضنية وواضحة للغاية لتشبه الغرب، والآن يبدو التناقض واضحًا في التأكيد المبالغ فيه على جذورها الشرقية، رغم أنه جعلها في الواقع تتجه أكثر نحو الشرق.

وهذا هو حالنا فبعد أن قطعنا في الواقع مسافات كبيرة في النواحي العلمية والتكنولوجية والسياسية والاجتماعية من أجل تجاوز ذلك، ما زلنا نقع في التناقض نفسه مرارًا وتكرارًا، فاللافتات المكتوبة باللغة العربية تذكرنا بجذورنا الحقيقية وأصالتنا، وفي الوقت نفسه يشعر البعض بالحرج من تلك الجذور، ويحاولون التخلص منها والابتعاد عنها.

ياسين أقطاي – الجزيرة مباشر

زر الذهاب إلى الأعلى