مقالات و أراء

إمام أوغلو وكوروم..رمزية المكان ومآلات التغيير

اختيار مراد كوروم وزير البيئة والتحضر والتغير المناخي السابق من جانب “تحالف الجمهور” لخوض سباق الانتخابات المحلية على مقعد رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى في احتفالية ضخمة، جاء بمثابة تحديد رأس الحربة التي سيخوض بها التحالف هذه المنافسة الشرسة؛ لاستعادة سيطرته على المدينة التاريخية، وإقصاء حزب “الشعب الجمهوري” عنها بعد خمس سنوات عانت فيها المدينة وسكانها- الذين يتجاوز عددهم أكثر من ستة عشر مليونًا- جراء ضعف الخدمات، وغياب التخطيط، وتخبط القرارات، وارتفاع الأسعار.

إنقاذ إسطنبول

كوروم سارع فور إعلان اسمه كمرشح لرئاسة بلدية إسطنبول ببدء معركته الانتخابية، حيث أدلى بتصريحات مختصرة شكَّلت رؤيته المستقبلية لمعالجة مشاكل المدينة، مشددًا على أن لديه مهمة محددة تشكل أساس عمله المقبل، وهي إعادة إحياء المدينة مرة أخرى، وإنقاذها من مرحلة الضياع التي تعيشها منذ خمس سنوات، في إشارة إلى فترة حكم أكرم إمام أوغلو، رئيس البلدية الحالي، ومنافسه في هذه المعركة الانتخابيَّة.

ورغم أن هناك العديد من الأسماء التي طُرحت لخوض هذا السباق الانتخابي الذي يمثل أهمية خاصة لحزب “العدالة والتنمية” وقاعدته الشعبية، إلا أنّ حصول مراد كوروم على أعلى نسب في استطلاعات الرأي التي أجراها الحزب داخليًا أهلته لتولي هذه المهمة، وحمل مسؤولية استعادة المدينة التاريخية.

لماذا مراد كوروم؟

اختيار كوروم تحديدًا لتولي هذه المهمة الخطيرة في هذا التوقيت بالتحديد من جانب قاعدة الحزب الشعبية، يحمل العديد من الدلالات والإشارات التي لا تخطئها العين، فالرجل مشهور عنه التزامه بمهام وظيفته، وتركيزه الشديد في عمله، وبعده التام عن خوض المعارك السياسية، وهي صفات لا يتمتع بها منافسه أكرم إمام أوغلو.

فأكرم وظّف معظم وقته – خلال السنوات الخمس الماضية التي قضاها في رئاسة البلدية – لتقديم نفسه كرجل سياسي، لديه القدرة على المنافسة في السباقات الانتخابية بما فيها الرئاسية، موظفًا الآلة الإعلامية لحزبه وللبلدية التي يرأسها لرسم هذه الصورة وتثبيتها في أذهان المواطنين، متجاهلًا مهمته الأساسية التي انتُخب من أجلها كمسؤول خدمي عليه التركيز على حلّ مشاكل المدينة، وتقديم أفضل ما لديه لتيسير حياة سكان المدينة وزائريها.

وجود شخصية بهذه الصفات أثبتت التجربة أن مدينة بحجم إسطنبول- جغرافيًا، واقتصاديًا، وسكانيًا – لا تحتاجها، بل تحتاج إلى شخصية لديها القدرة على تفهم احتياجات المواطنين، وبذل أقصى جهد لحل مشاكلهم، وإنهاء معاناتهم، شخصية تتمتع بالتواضع، وتكره الجدل العقيم، وليس لها في المؤامرات أو المكائد، ولا تختلق معارك وهمية، ولا تحارب طواحين الهواء.

شخصية يكون لها وجود فعلي بين المواطنين في وقت الأزمات، ويمكنها التعامل بإيجابية ومد يد العون لهم، خاصة أن المدينة تنتظر زلزالًا مدمرًا سيؤدي وفق رأي الخبراء إلى تدمير معظم البنية التحتية لها، إضافة إلى عدد لا حصر له من الأبنية الخاصة والعامة والمنشآت الأخرى، وهي الصفات التي تجتمع في شخصية مرشح “تحالف الجمهور”، الذي يبدو أنه اختيار موفق في العديد من جوانبه.

الرجل المناسب في التوقيت المناسب

فالرجل مهندس مدني، ولديه خبرة جيدة في إدارة الأزمات بما فيها الزلازل، حيث لعب دورًا ملموسًا في تخطي كارثة زلزال فبراير/ شباط الماضي الذي ضرب 10 ولايات في شرق البلاد، وتلافي تداعياته الإنسانية والخدمية، إذ أمضى معظم وقته بين المواطنين يستمع لشكاواهم، ويلبي احتياجاتهم دون كلل أو ملل لشهور.

إضافة إلى قدرته على وضع الحلول المناسبة لأزمة النقل العام؛ نتيجة لخبرته في مجال التخطيط الحضري والبيئة، وهي مؤهلات ترفع رصيده لدى الناخبين الذين تتزايد مخاوفهم مما يمكن أن تتحول إليه المدينة إذا ما وقع الزلزال المنتظر، وهو الخوف الذي دفع العديد من قاطنيها إلى تفضيل مغادرتها لأماكن أكثر أمنًا وسلامة.

أما على صعيد حزبه، فكوروم يعد من أكبر داعمي مشروع قناة إسطنبول، وفي هذا الشأن تتوافق رؤيته مع رؤية أردوغان، الذي يرى أن هذا المشروع الضخم يمثل مستقبل المدينة الاقتصادي، ويعد بحق أحد أهم الركائز التي يمكن أن تمنحها مكانة عالمية على الصعيد التجاري والمالي مستقبلًا، الأمر الذي يعني في حالة فوز كوروم أن خطوات تنفيذ المشروع ستكون أكثر سرعة وسهولة، دون توظيفه في جدال عقيم لتحقيق مصالح حزبية وسياسية ضيقة.

ملف اللاجئين

كما أنه يتبنى رؤية تحالفه الخاصة باللاجئين، الذين كان لهم نصيب من تصريحاته الأولى، حيث أوضح أنهم ضيوف لدى تركيا لظروف خاصة ببلادهم، آملًا أن تنتهي الحرب التي يعانون منها حتى يمكنهم العودة مرة أخرى لوطنهم، مشيرًا إلى أن في وجودهم فائدةً اقتصادية كبيرة للمدينة، بعد أن أصبحوا يمثلون جزءًا لا يستهان به من اليد العاملة بها، وهو ما يجب مراعاته وتثمينه.

مؤكدًا رغبته في العمل على إعادة الثقة مجددًا بينهم وبين المواطنين حتى يمكن للجميع العيش في أخوّة وسلام، وهو ما يشير إلى رغبته في وضع حد لملف العنصرية الذي طغى مؤخرًا على سطح الحياة السياسية والاجتماعية في تركيا، وهدد السلم الاجتماعي بها بعد أن حوّل المجتمع إلى جبهتين متصارعتين.

وهو نهج يخالف ما دأب عليه منافسه إمام أوغلو الذي كان – ولا يزال- أحد أبرز الداعين إلى ترحيل اللاجئين، وقاد حملة واسعة ضد اللغة العربية واللافتات المدونة بها على واجهات المحال التجارية التي يديرها عرب، تحت دعاوى الدفاع عن اللغة التركية، وحمايتها من هجمة اللغات الأجنبية، وما تمثله من خطورة على ثقافة المجتمع، متجاهلًا في الوقت نفسه اللغات الأخرى المستخدمة على واجهات المحال في الشوارع والمراكز التجارية كالفرنسية، والإنجليزية، والروسية وحتى الصينية.

 أهم نقاط القوة

أما أهم نقاط القوة لدى مراد كوروم والتي يفتقدها أكرم إمام أوغلو حاليًا، فتتمثل في كونه يخوض هذا التنافس باسم “تحالف الجمهور”، الذي يضم إلى جانب حزبه “العدالة والتنمية” كلًا من أحزاب “الحركة القومية”، و”الهدى بار”، و”الرفاه من جديد”، و”الاتحاد الكبير”، الأمر الذي يوفر له قاعدة تصويتية كبيرة تضم توجهات متباينة من الإسلاميين والمحافظين والقوميين، ونسبة من أصوات الأكراد.

أما إمام أوغلو فإنه يعتمد فقط هذه المرة على أصوات حزبه “الشعب الجمهوري”، وبعض أصوات الأكراد المنتمين لحزب “الديمقراطية والمساواة”، ما يعني فقدانه شريحةً ضخمة ممن صوتوا له ضمن “تحالف الأمة” في انتخابات 2019، وكانوا سببًا مباشرًا في فوزه، إلى جانب إصرار حزب “الجيد”- الذي كان يعوّل على أصوات مؤيديه- على عدم التحالف مع حزبه وخوض الانتخابات منفردًا.

إمام أوغلو اعترف بنفسه بأن المنافسة بينه وبين كوروم لن تكون سهلة، وأن مسألة فوزه هذه المرة ستكون أكثر صعوبة من سابقتها، وكأنه يحاول من الآن تبرير خسارته أمام منافسه، لكنه سعى لتدارك الموقف في محاولة لبث الأمل في نفوس قاعدة حزبه الانتخابية بعد حالة الإحباط التي لازمتهم منذ خسارة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، مؤكدًا قدرته على هزيمة منافسه، التي ستكون في حال فوزه – وفق تصريحاته- رسائل هامة ترتبط بتحقيق العدالة، والديمقراطية، وسيادة القانون.

رسالة ذات مغزى

وفي بداية حملته الانتخابية قام كوروم بأداء صلاة الفجر في جامع أبي أيوب الأنصاري، ليتوجه بعد ذلك إلى منطقة الفاتح حيث زار مسجد السلطان محمد الفاتح، وتناول الإفطار مع عدد كبير من تجار المنطقة، مستمعًا إلى مشاكلهم، وهي رسالة ذات مغزى هدفت إلى تأكيد الهُوية الإسلامية للمدينة التاريخية، والرغبة في الحفاظ على وجهها الإسلامي، ومحو مظاهر التغريب التي عمل “الشعب الجمهوري” على وصمها بها خلال السنوات الخمس الماضية.

معركة شرسة حامية الوطيس سنشاهدها بين متنافسين مختلفي التوجه والهُوية، ومتناقضَي الرؤية لما يجب أن يكون عليه شكل المدينة الأهم في تركيا، والتي تصبغ بصبغتها باقي المدن والمحافظات بهُويتها، وما تحمله من ثقافة، وما تدافع عنه من ميراث.

صالحة علام – الجزيرة نت

زر الذهاب إلى الأعلى