مقالات و أراء

الانسحاب الإسرائيلي من شمال غزة: مقدمة لحرب على لبنان؟

مع بداية العام الجديد، بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي تنفيذ انسحاب لجزء كبير من قواته من شمال قطاع غزة.

هذا الانسحاب لا يعني نهاية الحرب في جنوب فلسطين. وهو بالتأكيد لا يعني الهدوء على الجبهة اللبنانية – الفلسطينية. على العكس من ذلك، فإن خفض وتيرة الحرب في قطاع غزة يزيد من احتمالات الحرب الإسرائيلية على لبنان. فالمعارك الدائرة بين جيش الاحتلال وحزب الله على طول الحدود اللبنانية الجنوبية، منذ الثامن من أكتوبر، دعماً للمقاومة في غزة، كانت تزداد حدتها يوماً بعد آخر. والضغوط الأميركية والإسرائيلية على حزب الله تنذر باحتمال اندلاع حرب واسعة النطاق بين جيش الاحتلال والمقاومة اللبنانية، منذ ما قبل اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، بغارة جوية إسرائيلية في الضاحية الجنوبية لبيروت، في الثاني من يناير 2024. هذه العملية أتت لتزيد من احتمالات توسّع الحرب.

 

المرحلة الثالثة على الأبواب

الانسحاب الإسرائيلي من شمال قطاع غزة يعني أن الحرب باتت في الأيام الأخيرة من المرحلة الثانية من الحرب (احتلال مناطق من جنوب قطاع غزة، بعد المرحلة الأولى المتمثلة باحتلال شمال القطاع)، قبل الانتقال إلى المرحلة الثالثة.

ينوي جيش الاحتلال الاحتفاظ بشريط جغرافي يحيط بشمال القطاع. كما أنه يريد الاستمرار باحتلال منطقة وادي غزة (وسط القطاع)، مع استكمال عملياته في خان يونس في الجنوب. أما محور فيلادلفيا عند الحدود بين غزة ومصر، فأمره متروك للتفاهم بين تل أبيب والقاهرة، لأن احتلاله يحتاج إلى تفاهم مع النظام المصري، كي لا تقع حوادث تؤدي إلى التوتر بين الطرفين، كما لضمان عدم تدفّق اللاجئين من جنوب القطاع نحو سيناء.

الانسحاب من شمال قطاع غزة سببه أن بنك أهداف جيش الاحتلال بات فارغاً. كل الأهداف السابقة لبدء الحرب جرى تدميرها، وكل الأهداف العملياتية المستجدة تعرضت للقصف. رغم ذلك، تستمر المقاومة بتنفيذ عمليات ضد جيش الاحتلال. والبقاء في كامل مساحة شمال القطاع سيؤدي إلى زيادة قدرة المقاومة على إيقاع الخسائر في صفوف الغزاة. يُضاف إلى ما تقدّم عاملان أساسيان: الأول، أن جيش الاحتلال لا يمكنه “تطهير” شمال قطاع غزة بيتاً بيتاً ونفقاً نفقاً، لأن هذه العملية تحتاج إلى سنوات، وتعرّض المزيد من الجنود للخطر، ولا يمكن تنفيذها من دون تهجير جميع سكان شمال القطاع بالمزيد من المجازر (لا يزال مئات آلاف المدنيين موجودين في شمال القطاع). أما الثاني، فهو أن حكومة الاحتلال تحتاج إلى إعادة ضخ جنود الاحتياط، بالتدريج، في الاقتصاد الإسرائيلي لإعادة تشغليه، لضمان ألا تتعرّض القطاعات الإنتاجية إلى أضرار سيحتاج التعافي منها إلى وقت طويل. وقت ربما لن تختصره، في قطاعات محددة، المساعدات التي تبدي الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية وشركات غربية استعدادها لضخها في الاقتصاد الإسرائيلي في حال احتاج إلى ذلك.

هذه الإجراءات الإسرائيلية مبنية على أن جيش الاحتلال لا يزال عاجزاً عن تحقيق الهدفين الرئيسيين للحرب، أي القضاء على المقاومة في غزة، وعلى رأسها حركة حماس؛ وتحرير الأسرى الإسرائيليين الذين أسرتهم المقاومة في السابع من أكتوبر.

يبقى دافع أساسي لا بد من الإشارة إليه، وهو أن كل ما يقوم به جيش الاحتلال إنما هو تنفيذ لقرار أميركي بانتقال الحرب – قبل نهاية كانون الثاني / يناير 2024 – من مرحلتيها الاولى والثانية إلى المرحلة الثالثة، أي استمرار الحرب بوتيرة منخفضة. والولايات المتحدة تأخذ في عين الاعتبار هنا عجز الجيش الإسرائيلي عن القضاء على المقاومة، واحتمالات التصعيد الإقليمي، والضرر اللاحق بالإدارة الأميركية قبيل بدء الانتخابات الرئاسية التمهيدية.

 

زيادة التوتر مع لبنان

مع انتقال جيش الاحتلال إلى تركيز عملياته على جنوب قطاع غزة، ارتفعت حدة العمليات العسكرية على طول الحدود اللبنانية – الفلسطينية بين حزب الله والجيش الإسرائيلي.

الحزب زاد من حدة استهدافه لجنود الاحتلال، سواء في مواقعهم الظاهرة، أو في النقاط التي استحدثوها بعد بدء العمليات الحربية، أو في داخل المستوطنات.

قدرات الحزب الاستعلامية تطوّرت مع الوقت. وصار المقاومون اللبنانيون يستخدمون انواعاً من الأسلحة الصاروخية التي لم يستخدموها سابقاً، وهي ذات مدى أكبر وقدرة تدميرية أفضل من الأجيال السابقة.

في المقابل، ضاعفت “إسرائيل” من القدرة النارية المستخدمة في جنوب لبنان. صحيح أنها لا تزال تحصر عملياتها في منطقة جنوب نهر الليطاني، ولا توسّع نطاق عملياتها إلا في ما يخدم استهداف مجموعات المقاومة التي تنفّذ الضربات عبر الحدود، لكن القوة التدميرية صارت في الأسابيع الأخيرة أكبر من تلك التي كان جيش الاحتلال يفعّلها في بداية المعارك.

قيادة الاحتلال تسعى من زيادة ضرباتها إلى إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف المقاومين، كما إلى بث الذعر في صفوف سكان الجنوب لتهجير المزيد منهم، وتدمير أكبر قدر ممكن من المنازل بما يشكّل عبءاً على الحزب وعلى الدولة اللبنانية في عملية إعادة الإعمار بعد انتهاء المعارك. لكن ثمة هدف أبعد مدىً لهذا الأداء العسكري الإسرائيلي. فالحكومة الإسرائيلية، بحسب ما يعلن مسؤولوها، تريد انسحاب حزب الله من جنوب الليطاني، لضمان أمن مستوطني الشمال الذين يرفضون العودة إلى منازلهم التي تركوها بأوامر إخلاء من جيش الاحتلال أو طوعاً. وفي بعض التقديرات، وصل عدد المستوطنين الفارين من شمال فلسطين المحتلة إلى أكثر من 230 ألف شخص.

 

الرهان الخاطئ

وبموازاة التصريحات العلنية، بدأت الرسائل تصل إلى بيروت، من الولايات المتحدة الأميركية ومن دول أوروبية، للمطالبة بما تسمّيه “تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701″، أي انسحاب حزب الله من جنوب الليطاني.

وبحسب ما يرشح من معلومات، فإن حكومة الاحتلال تراهن على أن الحزب مردوع، ولا يريد توسيع الحرب، وأن الانهيار الاقتصادي الذي لم يتعافَ منه لبنان منذ العام 2019، والتوترات الداخلية اللبنانية، كلها عوامل ستردع الحزب وتمنعه من خوض الحرب. وبالتالي، تراهن تل أبيب على أن الحزب سيخضع للضغوط، ويلبّي طلباتها بما يخص انسحاب مقاتليه من المنطقة الحدودية مع فلسطين المحتلة.

هذه القراءة الإسرائيلية سابقة لاغتيال العاروري. وهذه العملية تأتي أيضاً ضمن الرؤية الإسرائيلية نفسها، أي أن الحزب لن يردّ أبداً، أو أنه سيرد بطريقة لا تؤدي إلى اندلاع الحرب.

في المقابل، يسعى الحزب حقاً إلى عدم توسيع رقعة الحرب. يبدو معنياً ببقاء الجنوبيين في منازلهم، قدر المستطاع. وهو يأخذ في الحسبان الواقع اللبناني المعقّد سياسياً واقتصادياً… لكنه ليس مستعداً لتقديم تنازلات. وهو، بحسب مصادر في محور المقاومة، لا يرى أن “إسرائيل” في وضع يسمح لها بأن تعوّض – على الساحة اللبنانية – الخسائر الاستراتيجية التي ألمّت بها نتيجة عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.

باختصار، بموازاة الرغبة بعدم توسيع الحرب، يبدو أن الحزب بدأ بالاستعداد لها. بيانه الذي أصدره عقب اغتيال العاروري يشير إلى ذلك، والإجراءات الميدانية ستظهر تباعاً. وما عجزت “إسرائيل” عن تحقيقه في غزة (استعادة الردع) في مواجهة محور المقاومة، لن يُسمح لها بكسبه في لبنان. أولى الإشارات بشأن ذلك ستظهر في العمل الذي يُتوقّع أن ينفّذه الحزب رداً على استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت لاغتيال العاروري، وهي الغارة الأولى التي تتعرّض لها هذه المنطقة منذ آب 2006.

خلاصة الأمر أن القراءة الإسرائيلية المبنية على أن الحزب لا يريد الحرب بأي ثمن، قد تكون قراءة خاطئة وتؤدي بذاتها إلى اندلاع حرب مدمّرة بين الطرفين.

 

 

حسن عليق

زر الذهاب إلى الأعلى