روائع التاريخ العثماني

النقود العثمانية

أستمر العثمانيون يستخدمون النقود الأجنبية التي ورثوها سواء كانت فارسية ام رومية ام سلجوقية ام أيلخانية مما كانت متداولة في الأناضول. ثم أخذوا يضربون نقوداً, خاصة بهم ,لا سيّما النقود الفضية والتي عرفت بـ (الاقجة akcheh) وهي لفظة تركية تعني النقود الضاربة إلى البياض، وتعرف باليونانية آسبرونAspron وبالفرنسية أسبرAspre.

لكن حينما دعت الحاجة إلى نقود أقل قيمة من الاقجة لتسيير الأمور اليومية البسيطة قاموا بضرب نقود نحاسية عرفت بـ (المانجير Manghir(وذلك في الأسواق المحلية حيث طرحت للتداول في كل أنحاء الدولة العثمانية.

النقود الذهبية: منذ ان بدأت الدولة العثمانية بضرب(الاقجة akcheh(وجعلها وسيلة الدفع وخاصة في المعاملات المحلية، لاسيما بعد التوسع في الأراضي الذي شهدّته الدولة خلال حروبها وفتوحاتها حيث وجدت من الضروري العمل على إصدار طريقة دفع معترف بها في شرق البحر المتوسط، لذا تحوًل العثمانيون نحو إصدار نقود ذهبية .

وقد استخدموا الذهب الذي كان يأتيهم بالدرجة الأولى من مناجم البلقان ، ومن إذابة النقود الذهبية الأوربية واستمروا على هذا الحال حتى أواخر القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي. وقد حافظت النقود الذهبية العثمانية على جودتها بسبب الحفاظ على نقاوتها أو عيارها العالي لتتماشى مع مثيلاتها من دوكا البندقية والنقود الذهبية لمعظم الدول الأخرى حول البحر الأبيض المتوسط.

لعبت النقود دوراً مهماً في الجوانب السياسية والاقتصادية والإعلامية، باعتبارها وثيقة رسمية صادرة عن الدولة، فقد جسدت صورة الحاكم سواءً أكان سلطاناً أم خليفة من خلال العبارات والألقاب التي حملتها تلك النقود.

وهذا الأمر برز واضحا على النقود العثمانية، من خلال الألقاب التي استخدمها السلاطين لأنفسهم اذ انها تكشف عن مفهوم السيادة العثمانية التي ظهرت في الوثائق الرسمية بدقة وعناية مثل: ، خان، وشاه وخاقان، وخليفة، وسلطان. وتجدر الإشارة إلى أن لقب “سلطان” كان من أكثر الألقاب استخداماً وشيوعاً منذ العهد الإسلامي الأول استناداً إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، فهو أكثر الألقاب ذات الصفة الإسلامية التي استخدمها العثمانيون.

اما لقب خليفة فهو أكثر الألقاب التي طال الجدل والنقاش حولها، والمعروف إن الحكام الأوائل استخدموا هذا اللقب إلا إن انتقاله إلى العثمانيين رسمياً حدث بعد دخول السلطان سليم الأول مصر عام 923هـ/ 1517م، ومنذ ذلك التاريخ اخذ السلاطين يستخدمون بين الحين والأخر لقب الخلافة.

السلطان محمد الفاتح(855-886 هـ/ 1451-1481م) كان(الدينار) معروفاً في الدولة الإسلامية إلا أن الدولة العثمانية أطلقت عليه لفظ(آلتونAltun) وهو تعبير مغولي شائع في إيران.

إن أول دينار عثماني ضرب في عهد السلطان محمد الفاتح كان عام 882هـ/ 1477م، ولم يعين له اسم وإنما قيل له (آلتون Altun) أو(سكة حسنةsikke – hasene) وهذه التسمية لم يشع استعمالها.

الا اننا نجد في سجلات الموازنات السنوية للدولة العثمانية كلمة(سكة حسنةsikke – hasene) إشارة إلى النقود الذهبية. كما عرفت أيضاً بأسم (سلطاني sultaniye) أو (حسني سلطانيةhusnu – sultaniye)،اما بالنسبة للوزن والعيار فقد تم اعتماد مقاييس دوگا البندقية، وذلك تماشيا مع ما كان متبعاً في الدول الأخرى الواقعة حول البحر الأبيض المتوسط، وأن أي نقد ذهبي بغير هذا المقياس لا يكتب له الاستمرار في قانون نامه السلطان محمد الفاتح .

أعطيت التعليمات لدور الضرب، بضرب129 قطعة نقود سلطانية من 100 مئة(مثقال) من الذهب وبنسبة(عيار 0.997) أي ان الدولة قد امتنعت عن تغيير مقاييس النقود الذهبية وذلك لسببين رئيسين أولهما، التقيد بالمقاييس الدولية القائمة وثانيهما ،إن الفوائد المالية التي يمكن ان تجنيها الدولة من وراء تخفيض العيار الذهبي للسلطانية قليل جداً لكون التزامات الدولة العثمانية كانت محددة بالاقجة. ومع ان السلطاني العثماني( الدينار) يختلف في وزنه عن الدينار الذهبي الإسلامي الشرعي الذي كان يبلغ نحو(4.54 غرام) ، وعن وزن الدرهم الإسلامي الشرعي الذي كان يبلغ نحو (3.183غرام) .

الا أن الدينار الذهبي العثماني قد حافظ على نقاوته الشديدة اذ بلغ عياره(0.997) وهي بلا شك درجة مثالية من حيث النقاوة، إذ ان 100% من النقاوة تعد من الأمور المستحيلة في عصرنا الحديث. الأمر الذي ساعد على قبوله بسرعة في كل مكان من مناطق شرق البحر المتوسط الى الهند ، وليس من المستبعد ان العثمانيين قد تأثروا في ذلك بالبيزنطيين فكما هو معروف ان عموم الأباطرة البيزنطيين قد حافظوا على نقاوة الدينار البيزنطي في مختلف الظروف مهما كانت صعبة وبذلك قبلت دنانيرهم الذهبية في التجارة في جميع أنحاء العالم ومن ضمنها الهند والصين، حتى ان العرب في العصر الجاهلي كانت لهم ثقة عالية جدا بالدينار البيزنطي وكانوا يستعينون به ليس كعملة متداولة بل كـ(تبر) عالي النقاوة كما أفادنا بذلك البلاذري.

كانت دار ضرب القسطنطينية، أهم دور ضرب النقود في الدولة العثمانية وقد ورثها العثمانيون عن البيزنطيين بكامل قواعد وأصول ضرب النقود، فضلاً عن ذلك قرب القسطنطينية من مناجم الذهب في البلقان، ولكونها عاصمة الدولة فقد استقطبت حركة استثمار قوية من قبل الاثرياء الذين كانوا يستهلكون جزءاً كبيراً من تلك النقود.

لقد حمل الدينار الذهبي السلطاني العثماني العبارات الاتية: (شكل 1) الوجه : سلطان محمد/بن مراد خان، عز نصره/ قسطنطينية/ ضرب في 883 الظهر: ضارب النضر/ صاحب العز والنصر/ في البر والبحر.

(الشكل1) السلطاني الذهبي- محمد الثاني – ضرب القسطنطينية سنة 883هـ- الوزن3.52غرام – قطر 19ملم
– عن قازان,ص361

 

وصفت النقود الذهبية زمن السلطان محمد الفاتح بانها سيئة الضرب ويُذكر إنه تمّ الاستعانة بأد الأوربيين وكان قد منح التابعية العثمانية واعتنق الإسلام وتَسمى بـ(فرج مصطفى) وكان على دراية بالنظام النقدي فتمكن من إصلاح حال النقود العثمانية الذهبية منها والفضية وقوبلت نقوده بالاستحسان.

أن عبارة الدعاء(عز نصره) التي حملتها النقود العثمانية، كان الظهور الأول لها على النقود الإسلامية في العهد المملوكي والتي تعني(أعزه الله بالنصر) أو(ليكن نصره عزيزا او مجيدا) ,اذ كانت هذه العبارة تمجد السلطان الذي تضرب النقود باسمه, وتدعو له ولإعماله بالنصر والنجاح.

أما عبارة (ضارب النضر) النضر, والنضار والأنضر اسم الذهب والفضة وقد غلب على الذهب وهو النضر الذهب وجمعه أنضر والنضرة السبيكة من الذهب.

عهدا لسلطان بايزيد الثاني(886- 918هـ/ 1481- 1512م) لقد حافظ السلطان بايزيد الثاني على وضع الدينار السلطاني الذهبي شكلاً وقيمة كما في عهد والده، وكان السلطاني الذهبي بمعظمه يضرب في دار ضرب القسطنطينية وسيرز في عهدي محمد الفاتح وبايزيد الثاني. وحمل السلطاني الذهبي المأثورة التالية: (الشكل2).

الوجه : سلطان بايزيد/بن محمد خان، عز نصره/ ضرب قسطنطينية/ سنة 886 الظهر: ضارب النضر/ صاحب العز والنصر/ في البر والبحر.

(الشكل2) سلطاني عثماني – بايزيد الثاني- ضرب القسطنطينية 886هـ الوزن 3.52غرام عنBaldwin sAuctions.london.no15,2009.

يلاحظ على النقود العثمانية الذهبية إنها لم تكن تحمل شهادة التوحيد والأدعية الدينية التي كانت تنقش على النقود العربية الإسلامية منذ الإصلاح النقدي الذي بدأه عبدا لملك بن مروان سنة 77هـ/ 696م، واستبدلوها بالألقاب الفخرية للسلطان الحاكم، إضافة إلى انهم ثبتّوا في ظهر النقد السنوات التي مرت منذ بداية حكمهم وسنة ضربها، كما إنها حملت التاريخ الهجري, واستخدموا الأرقام بدل الحروف في كتابة تاريخ الضرب.

عهد السلطان سليم الأول(918-926هـ/ 1512-1520م) أمر السلطان سليم الأول بضرب نقود ذهبية في سنة جلوسه على العرش918 هـ/1512م عُرفت بين الناس باسم(سلطاني) وبدأ ضربه في عدة دور ضرب جديدة في شرقي الأناضول، وضربت في دور ضرب دمشق وحلب ومصر، وقد حملت المأثورة التالية: (شكل3).

الوجه : سلطان/ سليم/شاه/ بن/ بايزيد خان/ عز نصره ضرب/ سيرز/ سنة 918
الظهر: ضارب النضر/ صاحب العز والنصر/ في البر والبحر.

(الشكل3) سلطاني – سليم الأول – ضرب سيرز سنة 918هـ ,الوزن 3.44غرام,القطر 18,5ملم,قازان , ص361
حرص السلطان سليم منذ دخوله مصر على ضرب النقود باسمه، ليس فقط بسبب نقود المماليك وما مكتوب عليها من آيات قرآنية كريمة واحتجاجه عليها بسبب إن من يتداولها هم النصارى واليهود وبقية الملاحدة فيدنسونها, بل لأن السكة هي إحدى شارات المُلك الرئيسة وعلامة على خضوع مصر لحكمه, وقد استمرت السكة والخطبة باسمه بعد خروجه من مصر عائداً إلى القسطنطينية.

هكذا أصبحت مصر ولاية عثمانية وواحدة من المراكز الرئيسة لضرب النقود الذهبية في الدولة العثمانية منذ عام(923هـ/ 1517م) فقد ألغى العثمانيون شهادة التوحيد والرسالة المحمدية والآيات القرآنية المكتوبة على النقود في مصر, واستبدلوها بالألقاب الفخرية للسلطان العثماني فقط. إلا أنهم لم يأتوا بأية إصلاحات على أنظمة النقود بل إن قيمة النقود كانت عرضة لتغييرات مستمرة في قيمتها.

وان هذا التغيير كان يراد به تحقيق أكبر فائدة لبيت المال العثماني من خلال الفرق بين قيمة النقود الاسمية وقيمتها الحقيقية, إذ كثيراً ما كانت تلجأ الدولة العثمانية وقت إرسال الجزية السنوية من مصر إلى استانبول إلى تخفيض قيمة النقود المتداولة الأمر الذي يزيد من عبء الضرائب على دافعيها.

وقد أطلق على النقود الذهبية المضروبة بمصر (أشرفي) وتمييزاً لها عن الأشرفي المملوكي فيقال(أشرفي ذهب عثماني) .

وفي روايات تاريخية نجد إشارات للأشرفي, إذ يُذكر إن والدة السلطان سليم الأول أمرت بتوزيع(1000) قطعة نقد ذهبية تدعى (اشرفي Eshrefiye) على فقراء المدينة المنورة.

كان (الأشرفي) المضروب في مصر يساوي سعر صرف السلطاني الذهبي المضروب في الأماكن الأخرى من الدولة العثمانية وكان ما يضرب في مصر محدد بأوامر السك التي تصدر من استانبول، وكلما تولى العرش سلطان جديد تضرب باسمه النقود بطراز تحدده(قوالب السك) المرسلة إلى دار الضرب المصرية أو غيرها من دور الضرب خارج حدود العاصمة العثمانية.

احتلت النقود الذهبية في الربع الأول من القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، المرتبة الأولى لدى التجار وأصحاب رؤوس الأموال وملاكي الأراضي وموظفي المراكز الحكومية العليا لتغطية مدفوعاتهم الكبيرة، ولم ينحصر استخدام النقود الذهبية على إنها وسيلة تبادل أو وحدة حسابية فقط، بل كان يشار لها كقطع ذهبية استخدمت للادخار أيضا، حتى انها وجدت في تركات المتوفين من موظفي الحكومة أو طبقة العسكريين، وغيرهم من أصحاب الثراء الذين كانوا يمتلكون المئات أو حتى الآلاف من تلك القطع الذهبية. وطوال هذا القرن بقيت القدرة الشرائية للذهب عالية إذ كانت الـ(59) اقجة تساوي قطعة نقد ذهبية واحدة.

 

 

د. ايمان عدنان العزاوي

زر الذهاب إلى الأعلى