مقالات و أراء

تركيا: أولويات ما بعد الزلزال

سيُحدث زلزال 6 شباط الحالي في جنوب تركيا، تحوّلاً في كثير من الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان الداخل التركي يناقشها قبل الكارثة. حيث حوّل الأنظار باتجاه كيفية التعاطي مع النكبة، وسبل معالجة آثارها، رغم أن التقديرات الرسمية بشأن حجم الأضرار وخطط السلطات السياسية المتعلقة بشكل خارطة الطريق لم يعلن عن كافة تفاصيلها بعد.

الرد الاستباقي هو من أهم مميزات سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وهو لا يتردد، عند اللزوم أيضاً، باللجوء إلى أسلوب الدفاع في قلب ساحة الهجوم، لمحاصرة خصومه السياسيين وقطع الطريق عليهم خلال محاولة نقل الكرة إلى أمام مربع مرماه، لكن ارتدادات الزلزال قابلة للتحول إلى حالات سياسية عاصفة تقود إلى تغيير قواعد اللعبة بين الحكم والمعارضة في تركيا.

أولى المواجهات بعد رفع الأنقاض ستكون في مسألة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حيث ينتظر حزب “العدالة والتنمية” معركة صناديق مصيرية، بعدما شرعت أصوات وأقلام في الحزب الحاكم، أو محسوبة عليه، في الحديث عن صعوبة إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري المعلن قبل نهاية حزيران المقبل، نتيجة الزلزال الذي ضرب 10 مدن تركية في جنوب البلاد.

صحيح أن المادة 78 من الدستور وقانون الانتخابات يتحدثان عن إرجاء مرتبط بحالة الحرب فقط. وأن قوى المعارضة التركية تقول إنها لن تدعم أي إقتراح أو طلب يأتي باتجاه تعديل المادة الدستورية، وإنها متمسكة بالذهاب إلى الصناديق بين أيار وحزيران على أبعد تقدير، فالانتخابات “لا تؤجل، وينبغي تحديد تاريخها فوراً، لأن الدولة بأكملها ستعاني من ارتدادات قرار من هذا النوع”، كما يقول زعيم حزب “الشعب الجمهوري” كمال كليتشدار أوغلو، إلا أن الأنظار ستكون مشدودة نحو اللجنة العليا للانتخابات لتحسم الموقف.

هناك تسريبات إعلامية تقول إن اللجنة ستحاول رمي الكرة في ساحة الأحزاب والقوى السياسية الكبرى، لتطالبها بالتفاهم فيما بينها وحسم النقاشات سواء في موضوع طريقة إجراء الانتخابات، فأكثر من 4 ملايين ناخب يبدل مكان إقامته بسبب كارثة الزلزال، أو لناحية التفاهم بشأن حسم موضوع تأجيل موعدها المرتبط بخطوة تعديل الدستور، وشرعية بقاء أردوغان على رأس السلطة حتى الموعد الجديد للانتخابات.

بانتظار ما سيجري لا يمكن إغفال حقيقة أن احتمال تراجع أصوات شعبية ” تحالف الجمهور”، الذي يقود المشهد السياسي في تركيا منذ عقدين، قائم طبعاً بعد كارثة الزلزال. لكن احتمال ولادة معارضة سياسية جديدة مختلفة غير التي هي قائمة اليوم بين السيناريوهات أيضا. وهذا ما يعني فرصة سياسية بالغة الأهمية لأردوغان وحزبه للبقاء على رأس السلطة لحقبة جديدة. كل شيء وارد والصورة ستتضح أكثر عندما ينجلي غبار ركام وأنقاض 3 خطوط زلازل هي بازارجيك وامانوس وسورغو، حركت بعضها بعضا وتسببت بهذه الكارثة. وعندما تبدأ القيادات السياسية باختيار الأماكن الجديدة للشروع في عمليات الإعمار والكشف عن الأموال التي تحتاجها وطرق تأمينها.

هدف البعض هو الخروج السريع من أجواء النكبة، والانتقال من مرحلة رفع الأنقاض، والتوجه نحو مساعدة المنكوبين وتجهيز خرائط مشاريع الإعمار الجديدة، للشروع في تنفيذ وعد أردوغان بتسليم المنازل الجديدة لأصحابها خلال عام، فيما هدف آخرين هو التريث وعدم رفع الركام قبل التأكد من تحرك مجموعات الإدعاء العام التركي باتجاه إنجاز تحقيقاتهم الميدانية بالتنسيق مع الخبراء والفنيين المتخصصين في الإعمار وتوثيق المشهد الميداني.

يريد حزب “العدالة والتنمية” الخروج سريعاً من ارتدادات الكارثة، عبر تحريك عجلة الانتقال إلى المرحلة الثانية في التعامل مع الأزمة، وهي إخلاء المناطق المهدمة ورفع الأنقاض والشروع في بناء المدن الجديدة. لكن المعارضة تستعد لمواجهة أردوغان بملفات عديدة غير ذلك، بينها المساءلة القانونية والسياسية حول من سيتحمل مسؤولية انهيار المباني الجديدة قبل القديمة، ومصير الأموال التي جمعت في إطار ضريبة الزلزال، والتي وصلت إلى عشرات المليارات، أين وكيف صرفت؟

ثم كيف تستعد السلطة السياسية للتعامل مع موضوع زلزال مدينة إسطنبول، الذي يُناقش منذ سنوات، والذي يقول الخبراء أن موعده يقترب يوما بعد يوم؟

“لو نتحدث عن زلزال إسطنبول بدلاً من الحديث عن مشروع قناة إسطنبول سيكون أفضل للجميع”، هذا ما يقوله، ويطالب به، رئيس بلدية المدينة، أكرم إمام أوغلو.

ما سيقلق قيادات الحزب الحاكم أيضاً هو استعدادات العديد من هيئات وجمعيات في صفوف المجتمع المدني لتفعيل موضوع المساءلة، خصوصاً أن أرقام الأضرار قد تصل إلى 10 بالمئة من الناتج القومي، أي نحو 84 مليار دولار، بالإضافة إلى أن آخر قوانين الإعفاء للأبنية المخالفة عام 2018 شمل أكثر من 3 ملايين مستفيد تمكنوا من تسوية أوضاعهم، كما يقال.

كلما انجلى غبار الزلزال سيتزايد عدد الأسئلة الموجهة الى حزب “العدالة والتنمية” وقياداته في الحكم. الزلزال، الكارثة، المساءلة، الإعمار، الدرس والمسؤولية، من بين الكلمات الأكثر تداولاً في تركيا اليوم، لكن الحكم يريد أن يرد سريعاً عبر تفعيل دور مثلث السلطة السياسية وهيئة الإغاثة “آفاد” ومؤسسة الإعمار الرسمية “توكي”، فلمن ستكون الغلبة؟

يريد البعض الإسراع في عملية لملمة ما تبعثر وتضميد الجراح. هذا ممكن طبعاً. لكن استخلاص الدروس والعبر وتحميل المسؤوليات قبل الانتقال إلى صباح اليوم التالي لا بد أن يكتمل أيضاً.

قبل العمل بصمت لا بد من إنهاء المساءلة بصوت مرتفع، وإلا فإن الكارثة قد تتكرر ويأتي صوتها أكبر، كما تردد قيادات المعارضة.

تقول الهيئة العليا للإغاثة التركية إن أكثر من 50 ألف متطوع وعامل في مجال الإنقاذ من داخل تركيا وخارجها شارك في عمليات انتشال المنكوبين ومعالجتهم ونقلهم إلى خارج المدن المتضررة. وإن 38 محافظاً، و12 سفيراً، و160 موظفاً حكومياً من الفئة الأولى، و121 مروحية، و78 طائرة مدنية وعسكرية، و26 سفينة حربية، ساهمت في عمليات الإنقاذ، وتأمين وصول المساعدات، وتوفير إحتياجات الملايين في المناطق المنكوبة. لكن هناك من يردد أيضاً أن حقوق 40 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى، وسقوط آلاف الأبنية، وعشرات المليارات من الخسائر، لا بد أن يواكبها الكثير من تحديد المسؤوليات، ومعاقبة المتسببين في ارتفاع أرقام الضحايا والخسائر، وذلك قبل الحديث عن المسامحة ونسيان ما حدث.

يعلن السفير الأميركي في تركيا، جيفري فليك، خلال تفقده المناطق المنكوبة في الجنوب، عن تعازيه للشعب التركي في ضحايا الزلزال، مشيراً إلى أن تركيا لطالما كانت تهرع لتقديم المساعدات إثر الكوارث والمآسي في القارات الخمس، وأنه حان وقت رد الجميل. لكن هناك في أميركا أيضاً من يردد، مثل المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية مايكل روبن، وهو أبرز المنتقدين لسياسات حكومة “العدالة والتنمية”، أن على واشنطن “دعم الأكراد المنكوبين في تركيا بشكل مباشر في حال رفضت السلطات المحلية مساعدتهم”! نوع آخر من الوقوف إلى جانب تركيا في محنتها!

امتحان صعب ينتظر حزب “العدالة والتنمية” على أكثر من جبهة في الداخل، أما الخارج فهو حديث آخر.

كاتب المقال سمير صالحة _ ترك برس

زر الذهاب إلى الأعلى