مقالات و أراء

رغم كل التهديدات الامريكية، تركيا ماضية في قراراتها

الحكومة التركية التي يقودها حزب العدالة والتنمية اتخذت لنفسها طريقاً خاصا ومختلفا عما هو سائد في تاريخ العلاقات التركية الأميركية والتركية الأطلسية والتي تمثلت في المسار المحافظ والذي يركز على تنمية التحالفات القديمة مع كلا الطرفين.

اما في الوقت الحاضر فإن تركيا في عهد الرئيس التركي السيد رجب طيب اردوغان تسعى لتأسيس موقف إقليمي يلبي طموحاتها ومصالحها حتى لو تقاطعت مع مصالح الحليفين الأميركي والاطلسي، وقد ظهر ذلك جليا في الموقف التركي من الازمة السورية الذي وصل الى التدخل المباشر واجتياح المدن في الشمال السوري كما حصل عند اجتياح عفرين السورية وفرض صيغة الامر الواقع، ومن جهة أخرى يتقاطع السلوك التركي مع الحلفاء في نظرتهم للقضية الكردية حيث يشن الجيش التركي ومنذ أعوام تشاركه الاذرع الأمنية حربا لا هوادة فيها ضد مقاتلي (حزب p.k.k) وبمن فيهم الموالون للولايات المتحدة والمدعومون منها.

وفاقم من هذا الوضع التقارب التركي الروسي الذي له سجالات وعلاقات معقدة مع الولايات المتحدة والناتو، هذه العلاقات قائمة على المنافسة العسكرية والجيوسياسية، والتي دفعت الإدارة الأميركية الى فرض عقوبات وحصول ازمات في العلاقات التركية – الأميركية.

في الواقع لا يمكن للرئيس التركي السيد اردوغان ان يضع يداً مع الحليف الأميركي- الأطلسي ويدا مع الحليف الروسي لأن لكل منهما مسار متقاطع مع الاخر، وعليه فان مسك العصا من الوسط والتشبث بعلاقة بين العدوين الخصمين هو المستحيل بعينه، ومع إدراك السيد اردوغان كل ذلك الا انه ماض ٍ في هذا المسار كما يبدو الى النهاية، فإلى اين سيمضي التحالف التركي – الروسي ومواجهة جدار الرفض الأميركي – الأطلسي؟

رصد الكثير من المحللين والمراقبين تحولا في السياسة التركية بدأت ملامحه بعد المحاولة الانقلابية التي حصلت في تموزمن عام 2016، حيث بدأت بوادر الفتور في العلاقات التركية ــ الأميركية وبدأ انصراف انقرة عن الغرب أيضاً.

وقد أكد الباحث في معهد كارنيجي للشرق الأوسط قدير يلدريم قائلا: ” في اعقاب المحاولة الانقلابية التي حصلت يبدو أن السياسة الخارجية التركية وجهت انظارها نحو الشرق، يعكس هذا التحول خلافا للاعتقادات السابقة، خيارا متعمدا اتخذته تركيا ويعود الى رغبة تركيا في تعزيز مكانة الحكومة داخليا واعتماد سياسة خارجية أكثر استقلالية، وتحض التحاليل الراهنة للسياسة التركية الغرب على اظهار تضامن أكبر مع المسؤولين الأتراك والمواطنين الذين عارضوا التدخلات غير الديمقراطية”.

وبحسب الباحث فان هذه التحليلات تشير إلى أن تركيا تريد من الذين تصفهم بأنهم أصدقاء منطقيين ان يقفوا في هذا الظرف مع تركيا الدولة رغم اعتقال عشرات الألاف من الأشخاص وحجزهم وصرفهم من عملهم ومحاكمتهم بتهمة التخطيط للانقلاب الفاشل أو الإرهاب.

ويفترض المحللون أن حكومة حزب العدالة والتنمية تتّبع اسلوب البقاء عبر الاكتفاء بالاستجابة للتطورات المحلية والدولية، وفي حال خرجت تركيا من المدار الغربي، فان حكومة العدالة والتنمية ستقوم الى القاء اللوم مباشرةً على الغرب لإخفاقه في التجاوب مع المطالب التركية، وهذا ما جاء على لسان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغل والذي أوضح الى ان تركيا تحتاج إلى معاملة استثنائية في هذه المرحلة.

ومن وجهة نظر الباحث يلدريم أيضا، فإن واقع الحال هو: أن المسار الجديد في السياسة الخارجية الذي تطمح إليه الحكومة التركية استغلّ محاولة الانقلاب لمصلحتها، فعبر الإشارة بأصابع الاتهام إلى الغرب ووصفه بأنه ساعد على تنفيذ الانقلاب، جرى اختلاق تبرير لفتح صفحة جديدة في السياسة الخارجية من أجل ضمان الاستقرار في الداخل. وكذلك عبر تصوير المحاولة الانقلابية الفاشلة بأنها مدعومة من الغرب (وهذه حقيقة دامغة تم التثبت منها) وبالتالي فهو يشكل تهديداً للأمن القومي، فقد جرى فرض مجموعة كاملة من الإجراءات التقييدية والتي حظيت ذلك كله بدعم شعبي واسع، وبناءً عليه كان هناك تطور سريع في السياسة التركية وربط موزون بين السياسة المحلية والسياسة الخارجية.

وبناءاً على جميع هذه المتغيرات كان لابد لحكومة العدالة والتنمية التركية من ايجاد سندا لها في مواجهة حائط الصد الأميركي – الأطلسي، ولم تجد أفضل من الحليف الروسي لتكون ذروة التحالف بينهما هي صفقة الصواريخ الروسية (أس400) التي تحولت الى رمز للعلاقات الجيدة بينهما للعلاقات المتأزمة بين تركيا والغرب.

فإذا كانت الولايات المتحدة الامريكية وحلف الناتو واضحين تماما في رفضهما للصفقة، فإن العناد التركي في المضي فيها سوف يترتب عليه ردود أفعال صعبة من جانب الولايات المتحدة.

وقد صرح سونر جاغابتاي من معهد واشنطن قائلاً:” سوف يتسبب إقدام أنقرة على شراء منظومة (أس 400) بتدمير العلاقات الثنائية الأمريكية – التركية، فمن شبه المؤكد أن تفرض واشنطن عقوبات على أنقرة في حال مضت تركيا قدماً في تنفيذ قرارها، وسوف يتعرض البيت الأبيض لضغوط شديدة لفرض عقوبات صارمة على أنقرة علاوةً على ذلك، قد يفرض الكونغرس عقوباته الخاصة على تركيا “.

اذن المغامرة التركية ماضية في خوض هذه الازمة الى نهاياتها والتي راهن البعضان تبعاتها الخطيرة ستكون اقلها على الاقتصاد التركي الذي يمر يومياً بعددٍ من الازمات والتي لم يخرج منها حتى الان، فضلا عن دخول تركيا منطقة الحليف والعدو في آن واحد وهو ما ترفضه واشنطن بشكل قاطع، ولكل موقف او تصرف له تبعاته الخطيرة والتي سوف تغير كثيرا من الموازين دوليا وإقليميا ، وسوف نراقب الوضع حتى نهاية شهر تموز القادم وهو انتهاء المهلة الامريكية لتركيا بالعدول عن شراء منظومة الصواريخ الروسية ، حيث أعلنت الولايات المتحدة على لسان ألين لورد مساعدة وزير الدفاع الأميركي التي قالت:” إنه في حال لم تتخل تركيا بحلول الحادي والثلاثين من شهر تموز عن شراء نظام إس-400، فإن الطيارين الأتراك الذين يتدربون حاليا في الولايات المتحدة على طائرات إف-35 سيطردون، وستلغى عقود الباطن الممنوحة لشركات تركية لصناعة قطع لطائرات إف-35″، ورغم ضغوط واشنطن فقد كرر الرئيس التركي السيد رجب طيب اردوغان هذا الاسبوع أنه “لا مجال للتراجع” عن صفقة النظام الروسي.

سننتظر جميعا نتائج هذا الصراع، ويحذونا الأمل بحكمة السيد رجب طيب اردوغان وطاقم حكومته بإدارة هذه الازمة والخروج منها بأقل ما يمكن من تضحيات من اجل تركيا الحرة المستقلة.

 

 

الدكتور عبد السلام ياسين السعدي 

زر الذهاب إلى الأعلى