مقالات و أراء

زيارة بلينكن لتركيا..هل تتصالح واشنطن مع الحقائق؟ (مقال رأي)

التقى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مع نظيره التركي هاكان فيدان في إسطنبول، وهو اللقاء الثاني بينهما خلال زيارته الرابعة للمنطقة في إطار الأزمة التي تركزت بقطاع غزة وبدأت في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

عقب بدء الهجوم الإسرائيلي على غزة، أجرى بلينكن محادثة هاتفية مع فيدان في 9 أكتوبر، وبناء عليه نشر في حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي: “لقد شجعت دعوة تركيا لوقف إطلاق النار”، لكنه حذف رسالته هذه، ما كشف عن سياسة بلاده المنحازة في بداية الأزمة، وسجل هدفا في مرماه.

وسجلت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل في 18 أكتوبر، فضيحة في تاريخ سياسات واشنطن بالشرق الأوسط، وكانت أكثر من محاولة دبلوماسية أحادية الجانب، حيث أعطى بايدن الفضل لسياسة التضليل الإسرائيلية، من خلال مشاركة الاتهام بأن الهجوم على المستشفى الأهلي المعمداني (بمدينة غزة) نفذته “حماس”، وبذلك أغلق باب اللقاء المقرر عقده في العاصمة الأردنية عمان، بمشاركة الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي، والفلسطيني محمود عباس.

كما واصلت الدبلوماسية الأميركية موقفها المنحاز، باختيارها عدم الاتصال بتركيا ودول المنطقة، مع اشتداد المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وقوبلت هذه السياسة بترحيب بارد، عندما زار بلينكن أنقرة في 6 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ولم يصدر أي تصريح بعد لقائه فيدان.

الظروف أجبرت بلينكن على زيارة إسطنبول

لا بد اليوم من تقييم زيارة بلينكن الثانية إلى تركيا بعد 7 أكتوبر، في إطار تغير الأوضاع سواء في غزة أو على المستوى الجيوسياسي العالمي، حيث يمكن العثور على الإشارة الأولى بأن واشنطن اضطرت إلى تغيير سياستها المنحازة لإسرائيل.

وفي بيان، قال متحدث وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر، بعد هبوط طائرة بلينكن في إسطنبول، إن تركيا حليف مهم في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولها دور مهم في حل المشاكل الإقليمية، بما في ذلك منع انتشار الصراع في غزة.

ويمكن تقييم محتوى زيارة بلينكن إلى تركيا يوم 6 كانون الثاني/يناير، في إطار 3 مواضيع، أولها الوضع الذي تم التوصل إليه في الهجوم الإسرائيلي على غزة، والثاني هو العلاقات التركية الأمريكية، مع مواضيع بارزة مثل مشروع شراء وتحديث طائرات إف-16، والمفاوضات الأذربيجانية الأرمينية، ومسألتي العراق وسوريا.

والثالث والأخير متعلق بروسيا مع مسار الحرب الأوكرانية، وإعادة رسم المنطقة ضد موسكو، ومن الممكن في هذا السياق تقييم إدراج عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي، والجهود الرامية إلى توصيل الحبوب الأوكرانية إلى الأسواق الدولية.

وعندما نقرأ التصريحات التي نشرت بعد اجتماع فيدان وبلينكن بعناية، نلاحظ أن البيانات تخلو من وجود اتفاق كامل بشأن الوضع في غزة، والجدول الزمني لشراء طائرات إف-16، وعملية عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي.

والأكثر من ذلك، تأكيد تركيا بإصرار على موقفها من هذه القضايا، إلا أن الطرفين لم يضعا مقاربة في حل المشاكل بدلا من خلق مناقشة جديدة، والبيان الذي أفاد أن القرار النهائي بشأن عملية انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي يعود إلى البرلمان التركي، يؤكد على الموقف الحازم.

كيف تغيرت سياسة البيت الأبيض في غزة؟

واستناداً إلى اللقاء الذي عُقد في إسطنبول، يُفهم أنه تم فتح ثغرة في السياسة الفلسطينية التي ظلت الولايات المتحدة تركز عليها منذ ثلاثة أشهر، ووفقا لمصادر دبلوماسية فقد طلب بلينكن من تركيا ومن ثم الأردن وقطر التي زارها الأحد الماضي، أن تلعب هذه الدول دورا في إعادة إعمار قطاع غزة وإدارته وربما أمنه.

وبلا شك سيتم تقييم هذه المواضيع في زيارة بلينكن الإمارات والسعودية ومصر ضمن جولته الإقليمية، إذا لماذا تطور النهج الأميركي في التعامل مع غزة إلى عملية متعددة الأطراف، كما كان ينبغي لها أن تكون منذ البداية؟

هذا التغيير تأثر بفعل فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق الهدفين اللذين أعلنهما بنيامين نتنياهو، وهما الفشل في تحييد زعيم حركة “حماس” بغزة يحيى السنوار، والفشل في تحرير أكثر من 130 أسيراً.

وفي كل يوم لا يتم فيه تحقيق هذه الأهداف، ينشأ خلاف بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والمتطرفين في حكومته مع قادة الجيش وأجهزة الاستخبارات.

إضافة إلى ذلك، فإن الفوضى التي ظهرت عندما انحاز وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالانت، وزعيم المعارضة في مجلس الوزراء الحربي بيني غانتس، إلى جانب رئيس الأركان العامة هرتسي هاليفي، تزعج واشنطن أيضا.

التطور الآخر الذي يزعج الولايات المتحدة هو ميل نتنياهو إلى توسيع الحرب إلى الأراضي اللبنانية، حيث يسعى للحفاظ على سلطته بأي ثمن كان، ويدرك بايدن أن نتنياهو الذي جر الشرق الأوسط إلى الدمار، أصبح عبئا عليه في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

جوهر الأمر: التحالف المتساوي

عندما ننظر إلى العلاقات التركية الأمريكية فإن عضوية فنلندا والسويد في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي جاءت على جدول الأعمال مع الحرب الروسية الأوكرانية، دفعت تركيا أيضا إلى فتح قضية “التحالف المتساوي” للمناقشة، وعبرها تمكنت تركيا من إحراز تقدم في اتخاذ الترتيبات التي من شأنها منع استضافة المنظمات الإرهابية التي تشكل تهديدا من أراضي حلفائها في الناتو.

ومن المسائل الأخرى التي شككت فيها أنقرة بشأن التحالف المتساوي، مسار التوازن العسكري في بحر إيجة، والذي عطلته واشنطن لصالح اليونان منذ عام 2010، وبينما تم استبعاد تركيا من برنامج طائرات إف-35، الذي تعد تركيا أحد الشركاء فيه بقرار مزدوج وعدم وضع جدول زمني واضح لطائرات إف-16 التي طلبتها، فإن بيع اليونان مقاتلات إف-35 ليس مقبولا بالنسبة لصناع القرار في السياسة الخارجية التركية.

ولا بد أيضا من التأكيد على تصريحات وزير خارجية اليونان يورغوس يرابتريتيس، الذي قال: “بالنسبة لنا ليس مهما على الإطلاق ما تفعله تركيا في علاقاتها مع الولايات المتحدة، لقد فهمت واشنطن من هو اللاعب الإقليمي الذي يمكن الاعتماد عليه”.

ومن المحتمل أن يكون يرابيتريتيس قد فهم أن بلاده دولة سلمت إرادتها للولايات المتحدة ببحرها ومطاراتها، بما في ذلك جزيرة كريت ودده آغاج (ألكسندروبولي).

وفي واقع الأمر، فإن استضافة بلينكن الذي ذهب إلى اليونان في 7 يناير الجاري، في جزيرة كريت، تحمل آثار “الفخر” الذي شعرت به اليونان في وضع مواردها بخدمة القوات البحرية والجوية الأمريكية.

إذ قال رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، لوزير الخارجية الأمريكي الزائر، “إنه لمن دواعي سروري البالغ أن أستضيفكم في منزلي في خليج سودا، لا أستطيع التفكير في مكان يرمز إلى علاقة التحالف بيننا أفضل من هنا، في جزيرة كريت” مرحبا به بهذه الكلمات.

إن وضع اليونان مواردها في البحر المتوسط وبحر إيغة والبحر الأدرياتيكي، و(منطقة) تراقيا الغربية، تحت تصرف الجيش الأمريكي يشكل جزءاً مهماً من حركة الاحتواء التي تمارسها الولايات المتحدة ضد روسيا، مثل عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي.

منذ عام 2010، حاولت الولايات المتحدة واليونان، مع قبرص الرومية وإسرائيل إلى جانبهما، محاصرة تركيا في شرق المتوسط ​​بتحالف دفاعي متنكر بزي التعاون في مجال الطاقة، واصطدمت هذه المحاولة أولاً بجدار الحقائق الجيوسياسية الذي بنته الحرب الأوكرانية الروسية عام 2021، لكن إدارة واشنطن التي لم تستوعب الدرس من ذلك، كررت خطأ استبعاد تركيا من قطاع غزة في التطورات التي بدأت عقب 7 أكتوبر الماضي.

أثبتت رسائل جولة بلينكن الجديدة في الشرق الأوسط، والتي بدأت باجتماعه مع وزير الخارجية فيدان في 6 يناير مرة أخرى، أن الأحداث في المنطقة لا تتماشى مع “سياسات الأمنيات” للولايات المتحدة.

** الصحفي محمد كانجي، يكتب تحليلات عن السياسة الخارجية التركية

زر الذهاب إلى الأعلى