مقالات و أراء

عبد الكريم أفندي.. حفيد السلطان عبد الحميد الثاني الذي دعمته اليابان وقُتل في نيويورك

منذ خلع السلطان عبد الحميد الثاني في أبريل/نيسان 1909م، دخلت تركيا مع حركة تركيا الفتاة وفي القلب منها جماعة الاتحاد والترقي في دوَّامة من الحروب والمعارك على مختلف الجبهات، بدأت بحروب البلقان الأولى والثانية واحتلال ليبيا، وانتهت بهزيمة الحرب العالمية الأولى، تلك الحرب التي كان من نتائجها الوخيمة احتلال إسطنبول من قِبَل الإنجليز، وغرب الأناضول من قِبَل اليونان، وجنوب الأناضول من قِبَل الطليان والفرنسيين، وسقوط شرق الأناضول في قبضة الأرمن المدعومين من الروس.

وقعت هذه الانكسارات في وقت كان فيه السلاطين العثمانيون في أوج ضعفهم، فقد كانوا مجرد تابعين لحكومات الاتحاد والترقي مثل السلطان رشاد والسلطان محمد وحيد الدين الخامس ثم السلطان الأخير عبد المجيد الثاني، وكانت هذه الحكومات نفسها هي التي وقّعت اتفاقيات المنهزمين مثل “مُوندرس” و”سيفر” في عامي 1918م و1920م، وهي الاتفاقيات التي رآها العسكريون الوطنيون والقوميون وأهل الأناضول في المناطق المحررة عارا يجب غسله بالمقاومة، وقد جمع شتات هذه المقاومة مصطفى كمال وعصمت إينونو وفوزي جقمق وغيرهم ممن خاضوا على مدار 4 سنوات حروب الاستقلال التي قضت على الوجود الأجنبي في الأناضول، ومن ثم في إسطنبول وتراقيا فيما بعد، ورأوا أن استمرار وجود الخلافة العثمانية أمر لم يعد له قيمة بعدما تغير الواقع الدولي.

العائلة العثمانية في الشتات

ولهذا السبب وبعد إعلان الجمهورية التركية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923م، قرر المجلس الوطني (البرلمان) بزعامة أتاتورك وإينونو إصدار القرار 431 في 3 مارس/آذار 1924م الذي قضى بإلغاء الخلافة رسميا ونفي كل أفراد الأسرة العثمانية وأقربائهم وأصهارهم وأحفادهم، وعلى رأسهم السلطان الأخير عبد المجيد الثاني، وأيضا سحب الجنسية التركية منهم.

كان القرار ينصّ على ضرورة خروج هؤلاء من الأراضي التركية في غضون ساعات، وسحب جميع أموالهم وبيوتهم منهم إلا ما استطاعوا بيعه من أثاث ومنقولات مع مبلغ لا يتعدى ألف ليرة. وتروي عائشة ابنة السلطان عبد الحميد الثاني ما وقع على أبناء العائلة من حيف في تلك الأثناء في مذكراتها قائلة: “لم نكن نُعطي المال قيمة، كان عطاؤنا للإنسانية ذاتها، فهكذا خبرنا الحياة وهكذا عشنا، والآن ماذا يمكننا أن نفعل في ديار الغربة دون مسكن أو مأوى؟ وما هو مصيرنا؟ إن ذنبنا الوحيد هو أننا أفرادُ الأسرة العثمانية. وشرعنا نفتح أبوابنا، ونبيع بالمزاد أثاث بيوتنا استعدادا للرحيل، وبالطبع لم نستطع أن نبيع الأثاث بقيمته الحقيقية”. وقد خرج الجميع هائمين على وجوههم نحو أقطار مختلفة، فالسلطان الأخير عبد المجيد وبعض أبنائه وأبناء إخوته انطلقوا نحو فرنسا، والبعض الآخر سافر إلى بلاد الشام وبيروت ومصر والهند وأميركا وغيرها.

ومن بين هؤلاء المُرحَّلين كان ابن السلطان عبد الحميد الثاني الأمير محمد سليم أفندي الابن الأكبر من زوجته الثالثة وأولاده الصغار، حيث اتجهوا إلى دمشق الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي وقتها. ولمَّا لم يطب لهم العيش فيها قرروا التوجه إلى منطقة جونية القريبة من بيروت في لبنان، واتخذوها موطنا حتى وافتهم المنية، ولم يبرحها سليم أفندي إلى غيرها. ولكن الحفيد الأمير محمد عبد الكريم بن محمد سليم ابن السلطان عبد الحميد الثاني قرر أن يخوض غمار التجارب، وتطلع إلى المغامرة في أنحاء الأرض لعله يعيد سيرة آبائه وأجداده العثمانيين في موطن الأجداد الأقدمين في تركستان.

الأمير محمد عبد الكريم والمشروع الياباني

لهذا التجربة قصة لا غنى عن سردها من بدايتها، فهذا الأمير العثماني (عبد الكريم) وُلد في العاصمة إسطنبول في السنوات الأخيرة من سلطنة جدِّه عبد الحميد الثاني وبالتحديد عام 1906م، ثم تلقى تعليمه الأوّلي بها حتى دخل المدرسة العسكرية الفنية في المرحلة الثانوية. ولكن حين قرَّر أتاتورك وصحبه إلغاء الخلافة ونفي العائلة العثمانية، قرر والده محمد سليم التوجه إلى منزلهم الصيفي في منطقة جونية ببيروت، وهنالك دخل ابنه عبد الكريم أفندي المدرسة الثانوية، ثم عشق فتاة مسيحية مارونية الأصل وأحب أن يتزوجها، لكن والده رفض الأمر رفضا قاطعا. وفي نهاية المطاف، قرر عبد الكريم وحبيبته الهرب إلى دمشق، وهنالك اعتنقت الفتاة الإسلام وأصبح اسمها الجديد “نعمت هانم”، ومن ثم قررا الزواج والعيش معا، فأنجبا هارون عام 1930م، ثم دُندار عام 1932م، ونظرا لهذا التصرف قاطع محمد سليم أفندي ابنه عبد الكريم حتى وفاته، وفي المقابل واجه الزوجان شظف العيش والفقر في مدينة دمشق.

اشتهر محمد عبد الكريم أفندي بالأنفة وعزَّة النفس، ولم يكن يقبل أبدا المساعدة من أصدقائه العرب، لذا فقد قرر السفر إلى منطقة حيدر أباد في الهند، ومنها انطلق إلى سنغافورة ثم إلى الإمبراطورية اليابانية التي كان لها مشروع ضخم في آسيا يقوم على مواجهة روسيا والنفوذ الغربي. وكانت اليابان تعمل في الوقت نفسه على التقارب مع أتراك وسط آسيا لتحقيق هذا المشروع، وعليه فقد التقى سفير اليابان في دمشق بمحمد عبد الكريم أفندي في تلك الأثناء وعرض عليه رئاسة الحكومة التي سيتم إنشاؤها في تركستان الشرقية ومنغوليا. وقد شعر عبد الكريم بإمكانية نجاح هذه الخطة بل وإعادة إحياء الخلافة العثمانية من بقعة جديدة في العالم، فقبل العرض وتحرك لتنفيذه برعاية الإمبراطورية اليابانية.

ولكن علينا أن نسلط الضوء أكثر على حقيقة هذا المشروع الذي وصفته اليابان بـ”الآسيوية العظمى”. كانت الإمبراطورية اليابانية قد بدأت منذ عام 1868م في عملية تحديث متسارعة مستلهمة في ذلك النموذج الغربي والأوروبي، وبلغت ذروة قوتها السياسية والعسكرية في أخريات القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، وأمست واحدة من أهم وأقوى دول العالم، حيث زاد عدد سكانها لدرجة أنها شرعت في البحث عن الأراضي الزراعية الخصبة والمواد الخام والسيطرة على الطرق الرئيسية وإقامة منطقة عازلة تابعة لها بين الصين وروسيا في القارة الآسيوية. وقد وجدت اليابان ضالتها في الصين ومنشوريا وتركستان الشرقية ومنغوليا لتحقيق مشروعها الجيوسياسي الطموح.

مدفوعة بهذا الطموح، دخلت اليابان الحرب اليابانية-الصينية الأولى عامي 1894-1895م وانتصرت، ثم هزمت روسيا عام 1905م، وقد هدفت اليابان من وراء ذلك إلى شرذمة الصين وتقسيمها، وكذلك السيطرة على سيبيريا من الروس، وإقامة دولة عازلة كبيرة لأتراك وسط آسيا تفصل الصين عن روسيا، بحيث تبدأ من تركستان الشرقية وتمتد إلى بقية دول ومقاطعات الأتراك في هذه المناطق بالإضافة إلى منغوليا. ولما كانت اليابان على علاقة قوية مع الدولة العثمانية في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، وكان الجانبان متفقين على خطورة الأطماع الغربية في آسيا والدولة العثمانية، فقد توثقت العلاقات بينهما.

ومن أجل التقارب مع الأتراك ادَّعى اليابانيون في ذلك التوقيت أنهم من السلالات “الطورانية” التركية، كما زعموا أنهم يسعون إلى معاونة إخوانهم المضطهدين من الأويغور والأوزبك والقازاق والقرغز وغيرهم؛ لتحريرهم من الاحتلال الصيني والروسي. ومن أجل توحيد هذه العرقيات التركية ضمن مشروعهم؛ رأى اليابانيون في الأمير محمد عبد الكريم أفندي اختيارا مناسبا لهذه المهمة، إذ إن جدَّه خليفة وعمَّه آخر الخلفاء العثمانيين، ولطالما أحب مسلمو الصين وأتراك وسط آسيا والهنود جده السلطان عبد الحميد وكانت له سُمعة طيبة بينهم، ولهذا السبب رأوا أن إنشاء دويلة تابعة لهم برئاسة هذا الأمير أمر مهم في إطار إستراتيجيتهم الآسيوية التي سعوا إليها حينذاك.

مغامرة الأمير والنهاية المأساوية

حين حطَّ الأمير عبد الكريم أفندي رحاله في طوكيو في بدايات عام 1933م لمقابلة كبار القادة والسياسيين اليابانيين، علمت المخابرات اليابانية بتتبع أحد الأتراك لمسار الأمير من سنغافورة وحتى نزوله إلى اليابان. وبعد الفحص والتحري عن هذا الشخص الذي ادَّعى أنه جاء لتحصيل مبلغ كبير من المال أقرضه للأمير عبد الكريم أثناء وجوده في سنغافورة، ثبت أن له صلة سابقة بالمخابرات التركية قبل أن يُفصَل من عمله لاحقا، كما كان على علاقة بالسوفييت حيث عمل في موسكو طوال ست سنوات، وهو الخيط الذي استشفَّ منه اليابانيون أن السوفييت والأتراك بزعامة أتاتورك كانوا على علم بتحركات ونِيَّات الأمير عبد الكريم. ولهذا السبب توافقت إرادة الطرفين واتحدت مصالحهم حينذاك للقضاء على تحركاته، فقد هدف الروس إلى منعه من إقامة إمبراطورية تركية في وسط آسيا على حدودهم كانت ستؤدي فيما بعد إلى انتفاض أتراك وتتار الاتحاد السوفيتي، بينما سعى أتاتورك ورجاله إلى منع انبعاث الدولة العثمانية مجددا.

لهذا السبب حلَّل الباحث علي دُندار وثائق التقارير الأمنية اليابانية التي وقف عليها في الأرشيف الياباني بخصوص الشخص الذي لاحقَ الأمير عبد الكريم في اليابان، وخلص إلى أنه كان طُعما من المخابرات السوفيتية آنذاك؛ فقد أعطاه مبلغا كبيرا من المال بالفعل، لا ليعينه على طريقه وإنما ليمنعه من مواصلة السير إلى تركستان الشرقية بحجة ضرورة استعادة أمواله حين يرفع عليه القضايا أمام المحاكم اليابانية. أما تركيا فقدَّمت هذا العميل وأعانته لأنهم رأوا في الأمير عبد الكريم أفندي تهديدا مباشرا للقادة الجدد بداية من أتاتورك فمن دونه، ولهذه الأسباب نظَّما عملية استخبارتية مشتركة لإفشال مهمته.

على أية حال، انطلق الأمير عبد الكريم إلى تركستان الشرقية، وهنالك قابل تحديا رئيسيا هو أن أتراك تركستان الشرقية كانوا منقسمين على أنفسهم بين الجمهوريين المؤيدين لأفكار مصطفى كمال أتاتورك في إقامة جمهورية حديثة، والمؤيدين للدولة العثمانية وميراثها الطويل. وفي ظل هذه الأجواء تسلَّم الأمير الشاب قيادة العمليات العسكرية ضد الصين من الأمام والروس من الخلف، بيد أن مهمته كانت شبه مستحيلة في ظل ضعف إمكانيات شعب الأويغور، وعدد سكانه آنذاك أقل من 10 ملايين نسمة، لا سيَّما أمام مئات الملايين من الصينيين المدعومين من الإنجليز والأميركيين لإفشال مخططات اليابانيين التوسعية، ناهيك بقوة الروس السوفييت من الخلف.

كما كان متوقعا، وعلى إثر الفشل في إدارة هذه المعارك أمام الصينيين وطلبا للنجاة بحياته، تمكن عبد الكريم أفندي من الهرب من تركستان الشرقية إلى الهند، ثم قرر الفرار إلى الولايات المتحدة طالبا اللجوء فيها. وقد نجح في الوصول إلى مدينة نيويورك ونزل في أحد فنادقها، وفي 3 أغسطس/آب 1935م أقدم عبد الكريم أفندي على الانتحار بمسدسه الشخصي وهو لا يزال شابا في التاسعة والعشرين من عُمره لمروره بضائقة مالية، وضياع حلمه في تحقيق بعث الدولة العثمانية من جديد، وتحرير تركستان الشرقية من القبضة الصينية.

تلك هي الرواية الرسمية التي قدمها شهود العيان والصحف والسلطات الأميركية، ولكن ابن عمه الأمير أورخان بن عبد القادر رافقه في هذه الرحلة، وكان يسكن معه في الغرفة المجاورة، أكد أنه لم يترك عبد الكريم قط، وأن الأمور في ذلك اليوم كانت على ما يرام، ولكن في وقت الحادث خرج لمدة خمس دقائق فقط لشراء سجائر ولما عاد وجد عبد الكريم غارقا في دمائه. ولهذا السبب يشكك أبناء وأقارب الأمير المغدور في هذه الحادثة ولا يتقبلون فكرة الانتحار بسهولة، ويمكننا أيضا أن نقبل هذا التشكيك بعدما رأينا نشاط أجهزة المخابرات السوفيتية والتركية في تتبع خطوات الأمير عبد الكريم منذ وطئت قدماه سنغافورة ثم اليابان ومحاولة عرقلته عن الذهاب إلى تركستان الشرقية، وليس من المستبعد أن هذه الأجهزة نفسها ظلت تراقب تحركاته حتى داخل أميركا نفسها.

تلك هي مغامرة الأمير محمد عبد الكريم أفندي حفيد السلطان عبد الحميد الثاني الذي حاول تحرير أرض الأويغور في تركستان الشرقية، وإعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية، لكن الوقائع على الأرض كانت أقوى من أحلامه، والإمكانيات أضعف من التحديات وقوة الأعداء. وقد خُتمت حياته القصيرة بحادثة مقتله أو انتحاره تاركا خلفه ولدين صغيرين هما هارون ودُندار، حيث آلت رئاسة السلالة العثمانية في العالم إلى دُندار الذي لقي ربَّه في يناير/كانون الثاني 2021م بمدينة دمشق التي تركه فيها والده مع أخيه وأمِّه نعمت هانم قبل ثمانية عقود ولم يرجع إليهما أبدا.

محمد شعبان أيوب – ميدان/الجزيرة

زر الذهاب إلى الأعلى