عـالـمـيـة

كيف يمكن للأوبئة أن تقلب العالم رأسا على عقب؟

قد يكون تأثير الأوبئة على المجتمعات مذهلا في بعض الأحيان، وإذا كانت تخلف وراءها موتا وبؤسا فإنها قد تترك أثرا إيجابيا على توزيع الثروة داخل المجتمعات، علما أنها غيّرت الجغرافيا السياسية العالمية في عدة مناسبات.

 

 

بعد هذه المقدمة تساءلت مجلة لوبوان (Le Point) الفرنسية: هل يمكن أن يلعب وباء كورونا حاليا دورا مزعزعا للاستقرار؟ تاركة الرد للبروفيسور والتر شيبل، أستاذ التاريخ القديم في جامعة ستانفورد المرموقة، في مقابلة أجراها معه غابرييل بوشو.

وللحديث عن وباء كوفيد-19 في سياق تاريخي، قال مؤلف كتاب “ذا غريت ليفيلر” (The Great Leveler) -الذي يتحدث عن التأثير الاقتصادي للكوارث العظيمة التي ضربت البشرية، من انهيار الدول إلى الحروب الشاملة- إن الأوبئة التي مرت بنا أثرت على مجتمعات مختلفة عنا، تقوم على اقتصادات زراعية في الأساس، وبالتالي لا يمكن إسقاط تأثير الوباء عليها على مجتمعنا.

لوبوان: كيف يمكن للأوبئة أن تقلب العالم رأسا على عقب؟

 

ومع أن الإنفلونزا الإسبانية -التي قتلت ملايين الأشخاص- يمكن أن تعد أول مثال جيد لوباء حديث؛ فإن مشكلتها أنها جاءت مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، ومن المستحيل فصل آثار الحرب عن آثار هذا الوباء على خفض مستوى التفاوت.

 

انهيار اقتصادي مستدام
لذلك، يجب أن نتساءل عما سيحدث الآن -كما يقول شيبل- في عالم مختلف تماما عن العالم الذي شهد انتشار هذا النوع من الأمراض، والجواب: “لا نعرف”. إلا أن الباحثين حاولوا محاكاة آثار الإنفلونزا الإسبانية على مجتمعاتنا المعاصرة، بافتراض أن تفشي كورونا مشابه لها، ويمكن استخدام هذه المحاكاة لمحاولة تخمين ما سيحدث.

 

تتوقع المحاكاة ارتفاع معدل الوفيات في البلدان النامية، مثل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، التي ستواجه صعوبات خطيرة في احتواء المرض، وسيكون هذا المعدل أقل في البلدان الغنية، إلا أن من الصعب تحديد آثار ذلك على توزيع الثروة في المجتمع.

وإذا تفاقم الوباء الحالي، يمكن أن يكون هناك انهيار أكثر استدامة للاقتصاد، وبالتالي لقيمة رأس المال، مما قد يكون له تأثير على توزيع رأس المال بين السكان، كما تشير مؤشرات تصحيح السوق في الولايات المتحدة، حيث خسر مؤشر “داو جونز” ما يقرب من 4500 نقطة في غضون أيام قليلة، بما قد ينقص ثراء الملاك الأثرياء.

ووافق شيبل على أن ذعر الأفراد قد يجبر الحكومات والمؤسسات على اتخاذ إجراءات أكثر صرامة، وربما غير ضرورية، مستنتجا أنه إذا ظهر فيروس جديد في غضون 5 سنوات، فسيكون العالم مسلحا بشكل أفضل.

وضرب شيبل مثالا بما شوهد تاريخيا، حيث لم يكن هناك حجر صحي عندما وصل طاعون “الموت الأسود” إلى أوروبا عام 1348، لأن العالم لم يكن مستعدا، إلا أن مستوى التحضير تحسن بمرور الوقت، فكان فرض الحجر الصحي القاسي في القرن 17، وبالتالي كلما واجهت الحكومات المزيد من الأوبئة، طوّرت قدرتها على الصمود والتأقلم حتى مع الأحداث الأكثر خطورة.

وعند سؤاله: هل يمكن لوباء هائل أن يتسبب في سقوط دولة؟ يرد شيبل بأن الدول تبدو مرنة للغاية عند التعامل مع الأوبئة، مشيرا إلى أن انهيار إمبراطوريتي “الإنكا” و”الأزتيك” في أميركا الشمالية كان بسبب عدة عوامل، منها الأوبئة بالطبع، بالإضافة إلى وصول الغزاة أيضا.

ومع ذلك -يضيف شيبل- هناك اختلاف بين الدول في الماضي والدول المعاصرة التي لديها اقتصادات أكثر تعقيدا وترابطا، خاصة أن الناس أصبحوا يعتمدون على الخدمات التي يقدمها الآخرون، وبالتالي فإن خطر زعزعة الاستقرار أعلى بكثير في الدول الحديثة مما كانت عليه الحال في القرن 14.

ومع ذلك، يرى شيبل أن الدول المعاصرة في الوقت نفسه أكثر مرونة، لأنها أكبر ولديها قدرات أفضل للتفاعل والموازنة وتجميع المعلومات، لذلك من غير المحتمل أن تنهار بسهولة، وإن كانت دولا هشة -مثل جنوب السودان- يمكن أن تصيبها حالة من الفوضى بسبب وباء كبير.

 

لوتان: نبوءات ما بعد أزمة كورونا.. هل حقا سيتغير كل شيء؟

الأوبئة لها دور
ولم يستبعد شيبل أن يزيد الوباء عدم الاستقرار في دول مثل إيران أو الصين، زاعما أن هذه الدولة تكذب على مواطنيها، إلا أن الحكم على تعامل الحكومات مع الأزمة سيكون عند حلها، ولذلك تتمتع الحكومة الصينية بفرصة جيدة للحصول على درجة عالية، لأن لديها القدرة والإرادة لتطبيق إجراءات جذرية، وهذه ليست الحال مع دول أخرى، مثل إيران؛ وبالتالي قد يكون الوباء “القشة التي قصمت ظهر البعير” في إيران، ولكنه بالتأكيد لن يكون السبب الوحيد لانهيار النظام. وعلى أي حال، يمكن أن ينهار النظام وليس الدولة.

وعند طلب الصحفي أمثلة على كون الأوبئة لها آثار جيوسياسية كثيرة مثل تلك التي تسببها الاكتشافات العظيمة، رد شيبل بأن الأمر فريد من نوعه، حيث تم ربط عالمين منفصلين: الأميركتين وأوراسيا لأول مرة، وكأن كائنات فضائية تأتي لزيارة الأرض وتنقل بعض أمراضها إليها.

وقال المؤرخ إن الدول أصبحت أكثر استعدادا لاحتواء الأمراض منذ القرن 17، إذ أصبحت مسلحة بشكل أفضل، وأقدر على فرض الحجر الصحي الشديد، وأحد الأمثلة الأكثر شهرة على ذلك هو ما حدث خلال وباء الطاعون الذي تفشى في مرسيليا بفرنسا عام 1720، إذ فرضت المملكة الفرنسية حجرا صحيا قاسيا على هذه المدينة، أدى إلى موت نصف سكانها، ولكنه مكّن من احتواء الوباء، وكان ذلك ثمرة للتجارب السابقة المرتبطة بالأوبئة، التي كانت وراء صنع القرار.

وأضاف المؤرخ أن الطاعون ربما يكون قد أسهم -من خلال إضعاف الإمبراطورية الرومانية- في إعلان الحرب مع الفرس، مشعلا واحدة من أهم الحروب في التاريخ، لأنها أضعفت هاتين القوتين، إلى درجة أنهما واجهتا أكبر صعوبة في مقاومة المد الإسلامي.

وخلص المؤرخ إلى أنه لو لم تتحارب الإمبراطوريتان لمدة 30 عاما، لما ذهب المسلمون بعيدا جدا في غزواتهم، وبالتالي إذا كان الوباء جعل هذه الحرب ممكنة، فإنه يمكن تصور وجود صلة بينه وبين تطور الإمبراطورية الإسلامية التي غيّرت العالم، وإن كان هذا لا يزال مجرد تخمين.

زر الذهاب إلى الأعلى