روائع التاريخ العثماني

هل كان السلطان سليم الأول طائفيًا؟

يُشاع عن السلطان العثماني سليم الأول أنه كان طائفيًا متعصبًا لمنهجه السني، لذا كان يقاتل الشيعة الصفويين والعلويين انطلاقا من تعصبه هذا، فما حقيقة الأمر؟

 

للإجابة عن هذا السؤال، يلزمنا العودة إلى البيئة التاريخية للتشيع في الفترة التي تسبق اعتلاء السلطان سليم عرش الدولة العثمانية، فلم يكن التشيع لدى الصفويين مجرد مذهب عقائدي سلوكي، بل تم توظيفه سياسيًا واستعماريًا لإزاحة الدولة العثمانية السنية والقفز على أراضيها وتبوأ مكانتها في العالم الإسلامي.

عندما أعلن الشاه إسماعيل الصفوي نفسه شاهًا على إيران، وتحولت الدولة إلى دولة شيعية، سعى لمنافسة الدولة العثمانية السنية، وتغلب على “شايباك خان” ملك تركستان، لتصبح الدولة الصفوية هي القوة الثانية عسكريا وسياسيًا بعد الدولة العثمانية.

 

ونظرًا لأن السلطان العثماني بايزيد الثاني لم يكن مدركًا للخطر الصفوي ولم يوله اهتمامًا، أصبحت الدولة العثمانية الهدف التالي للشاه إسماعيل الصفوي، فبدأ في جمع شباب من الأناضول وإرسالهم إلى أردبيل، حيث يتم تدريبهم وتشييعهم، ثم يعيد إرسالهم مرة أخرى إلى الأناضول تحت مسمى “متصوفة أردبيل” ليقوموا بالدعاية الفكرية له، ومن هنا ندرك أنه كان ينشر التشيع عبر بوابة التصوف.

ومن أبرز تلاميذ الشاه الذين دربهم، شاب يدعى “شاه قولو”، وهو تركماني خدم في الجيش العثماني، وتأثر بدعوة إسماعيل الصفوي وذهب إلى أردبيل لتلقي التدريب ليكون مُلّا شيعيًا بدرجة خليفة.

 

ثم عاد في السر إلى الأناضول وعمل على تجميع شباب التركمان، وبدأ في إثارة الفتن والاضطرابات، ما ألجأ الدولة العثمانية إلى تسيير الوزير الأعظم علي باشا، ليواجهه في معركة “كوك جاي”، وقضى عليه وعلى أتباعه عام 1511م، إلا أن الوزير قتل هو أيضا.

ومن هنا، ندرك أن الأناضول برز فيها فرع شيعي موالٍ للشاه إسماعيل الصفوي، ما كان يهدد أمن واستقرار الدولة العثمانية.

 

خلافًا لأبيه، كان سليم الأول مدركًا قبل توليه الحكم، خطورة الدولة الصفوية وجيوبها في الأناضول، لذلك ذكر المؤرخون أنها أبرز الأسباب الذي جعلته يقفز على حكم أبيه، لإنقاذ البلاد من الخطر الصفوي الشيعي.

بعد انتصار الشاه إسماعيل على “علاء الدولة بك” التركماني عام 1507م، قام بحرق ألبيستان وخربوط وديار بكر وهدمها، بالتزامن مع قيام أتباعه بإثارة القلاقل في الأناضول، وكانوا يلبسون قلنسوات حمراء على رؤوسهم، فعرفوا بـ “قزل باش” أو أصحاب الرؤوس الحمراء.

 

وقام أحد نقباء إسماعيل الصفوي في الأناضول، وهو “روميه لي نور علي” على رأس قوة من متصوفة أردبيل بمهاجمة مدينة “طوقات” وقتل المئات من أهلها.

وفي هذا الوقت، قام “شاه قولو” بتنظيم العلويين الشيعة في الأناضول لمواجهة الدولة العثمانية، وقام بنهب خزائن الأمير “قورقوت” وأغار على مدينة أنطاليا وقتل من أهلها عددا كبيرًا من بينهم رئيس القضاة.

ثم هاجم “قزلجا قايا”، و “إستانوص”، و “ألمالي”، و “بوردور”، و “كيجي بورنو”، حتى وصل إلى “كوتاهيا”، وقام بقتل “قارا كوز أحمد باشا” وهو أمير أمراء الأناضول، ونتيجة لأعمال التخريب التي قاموا بها في المنطقة، بقيت هذه المنطقة في خراب على مدى أكثر من عقدين من الزمان.

وحتى بعد مقتل “شاه قولو” أبرز نقباء إسماعيل الصفوي، لم يكف أتباعه من الشيعة المتشددين عن أعمال التخريب، وقد وجهت العشائر الكردية رسائل استغاثة إلى السلطنة، من بينها ما ذكره المؤرخ أحمد آق كوندز في كتابه “الدولة العثمانية المجهولة”، جاء فيها:

“نرجو قيامكم بمساعدتنا نحن المخلصين لكم، إن بلدنا قريب من ديار قزل باش (العلويون أتباع إسماعيل الصفوي) وهم جيران لنا، بل بلدنا مختلط، وكم من سنوات قام فيها هؤلاء الملحدون بهدم بيوتنا وقتالنا، كل ذلك بسبب محبتنا لسلطان المسلمين، ونحن ننتظر من عطفكم ومن شفقتكم القيام بإنقاذ هؤلاء الناس الصادقي الإيمان، من هؤلاء الظالمين”.

وبعد أن اعتلى السلطان سليم سدة الحكم عام 1512م، وكان مدركًا كما أسلفنا للخطر الصفوي والشيعي العلوي ومتابعًا لكل الأحداث التي سردناها، جمع الديوان الهيمايوني لمناقشة هذه المشكلة الكبرى، حضره جمع من كبار العلماء منهم العلامة ابن الكمال، واستمع إلى فتاواهم بشأن هؤلاء المارقين الباغين.

فقد كان يدرك ضرورة إخماد هذه الاضطرابات والفتن والجيوب، قبل أن يتجه لقمع الخطر الصفوي الأكبر الذي يهدد بابتلاع الدولة العثمانية، فأمر السلطان بقتل من لم يتب منهم، ولم يكن أمام السلطان سليم أي حل آخر سوى قتالهم وتصفيتهم فقتل منهم الآلاف حتى خمدت أصواتهم، قبل أن يقوم بمواجهة الصفويين في معركة جالديران الفاصلة عام 1514م.

من هنا ندرك أن التهمة الموجهة للسلطان سليم بأنه كان طائفيًا تهمة باطلة، لأن السلطان سليم كغيره من الحكام العثمانيين أتباع المنهج السني، لم يجبروا الشيعة على التحول إلى المذهب السني، بل يعرف عن ابنه السلطان سليمان القانوني، بأنه عندما دخل بغداد لإنقاذ أهل السنة من خطر الصفويين الذين فرضوا المذهب الشيعي، لم يتعرض لشيعة بغداد، ولم ينكّل بهم، على العكس فقد أحسن إليهم وأكرمهم.

فكما أنه قام بإعادة بناء ضريح الإمام أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب الفقهي المعروف والذي هدمه الصفويون ودنّسوا رفاته، لم يفته كذلك أن يزور قبور “أئمة الشيعة”، وقام ببناء سد لمدينة كربلاء (ذات الغالبية الشيعية) لوقايتها من الفيضان، ووسع الترعة المعروفة بالحسينية لكي تأتي بالماء باستمرار، فزرعت المنطقة حول العتبات المقدسة للشيعة بالبساتين وحقول القمح.

المقصد، أن السلطان سليم لم يقاتل الصفويين والعلويين لأنهم شيعة، بل قاتلهم باعتبارهم كيانات مخربة باغية تثير القلاقل والاضطرابات في المنطقة، بهدف القضاء على الدولة العثمانية وتسلم الريادة منها.

زر الذهاب إلى الأعلى