أخــبـار مـحـلـيـة

20 عاما من “العدالة والتنمية”.. كيف خرجت تركيا من أزماتها الاقتصادية والسياسية إلى مقعد بين الكبار

في صيف 1991 هبط عادل حمدي، طالب الجامعة وقتها، إلى مطار صبيحة شرق اسطنبول، وأخرج 150 دولارا لتغييرها إلى الليرة، حين فوجئ أنه أصبح مليونيرا!

كان سعر الدولار 7500 ليرة تقريبا.

لم تكتمل سعادة الشاب المصري بالمليون حين عرف أنه لن يكفي لإقامة أسبوع واحد. 

خطفته المدينة المعتقة بسحر تاريخ شرقي باذخ، وتلال مترامية تصدح بالأذان من المساجد الأيقونية، وأبراج تحرس خضرة الغابات وقمم التلال.

لكن القرن الذهبي، كنز اسطنبول وقلبها التاريخي، أدهش عادل بفوضاه وعدم نظافته. وكانت المدينة في ذلك الصيف تتنفس أجواء رمادية تحت وطأة الزحام والتراب والأحياء المتكدسة. 

الآن يتابع عادل بإعجاب ما جرى للمدينة حتى أصبحت في مقدمة العواصم السياحية في أوروبا، وإحدى أكثر المقاصد سحرا، ويعود للدهشة. عاد للقرن الذهبي بهاؤه، كما عادت شمس المدينة تشرق على مساحات هائلة من أخضر الغابات وحدائق التيوليب، إلى أزرق البوسفور الساحر.

المشوار الذي قطعته مدينة التلال السبعة لتستعيد مجدها، هو طريق سارت فيه تركيا بأكملها منذ عقدين تحت حكم حزب العدالة والتنمية، طريق صاعد بلا هوادة.

في مارس/آذار 2023 يحتفل حزب العدالة والتنمية بمرور 20 عاما على تسّلم أردوغان منصب رئيس وزراء تركيا عام 2003، قبل أن ينتقل إلى منصب رئاسة الجمهورية عام 2014.

يحتفل بالطريق الذي بدأ في ظلال أزمة اقتصادية طاحنة، وتجاذبات سياسية وطائفية داخلية عميقة. لكن يكتمل الآن وقد صعد الاقتصاد التركي إلى الصف الأول بين كبرى دول العالم، وأصبح موقف أنقرة رقما مهما في معظم الملفات السياسية والعسكرية.

والقوة في الاقتصاد تعني القدرة في السياسة.

في هذا التقرير نستعرض التحديات التي واجهها حزب العدالة والتنمية في الداخل والخارج عند تسلمه السلطة عام 2003، وأبرزها طغيان قادة الجيش على الحياة السياسية، والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أثقلت اقتصاد البلاد بالركود والديون، وكيف نجح الحزب بقيادة أردوغان في إعادة تعريف دور الجيش، ووضع الاقتصاد بين العشرين الأكبر في الكوكب.

نموذج “الديمقراطية الإسلامية”

تأسس الحزب في عام 2001 من قبل أعضاء بعض الأحزاب مثل حزب الفضيلة، وحزب الوطن الأم، وحزب الطريق القويم. 

وقتها قال أردوغان إنّ الحزب “لن يكون إسلامياً”.

وأعاد الحزب تعريف العلمانية بأنّها “حريّة دينية”، وليست معادية للدين. بتعبير أردوغان فإن “القرآن كتاب ديني، والديمقراطية شكل للحكومة، ومن الخطأ وضع الاثنين ضمن تقسيم واحد”.

وبعد عام واحد كان الحزب الأكثر تأثيرا على المشهد السياسي في تركيا.

كانت انتخابات 2002 نقطة تحول مهمة في تاريخ تركيا.

في ضربة واحدة فقد 90% من نواب البرلمان مقاعدهم، وفشلت كل أحزاب البرلمان السابق في تخطي نسبة 10% اللازمة للتمثيل النيابي. 

هكذا نشأ برلمان من حزبين فقط: 

الحزب الجمهوري الذي حصل على 20% من المقاعد.

ثم الفائز الأكبر، الوافد الجديد حزب العدالة والتنمية، الذي قطع قادته صلاتهم بحزب السعادة الإسلامي عقب حظره في العام السابق.

حصل العدالة والتنمية على 35%، ومهّد الطريق لقائديه، رجب طيب أردوغان وعبد الله غول، لتشكيل ملامح المشهد السياسي لتركيا في السنوات المقبلة. 

واستفاد الحزب الجديد من المزاج الشعبي العام السائد، الرافض لعموم الأحزاب الموجودة على الساحة، وكان الناخبون يتطلعون لوجوه جديدة تعلن محاربة الفساد وتنقذ الاقتصاد وتحقق الاستقرار السياسي.

وفي انتخابات 2007 التي وصفها المراقبون بأنها الأفضل تنظيما منذ انتخابات 1950، حقق العدالة والتنمية نصرا أكبر، فقد حصل على المركز الأول برصيد 47% من الأصوات، وأبرز إعلام الحزب بفخر حصوله على أكثر من ضعف الأصوات في محافظات الجنوب الشرقي التي يغلب فيها السكان الأكراد. وهكذا استطاع الحزب أن يقول إنه يمثل كل الأقاليم التركية.

وعاشت تركيا منذ عام 2018، تجربة جديدة في ظل الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، ليصبح أردوغان أول رئيس عبر الانتخابات المباشرة، ومن المقرر أن تجرى انتخابات برلمانية ورئاسية في تركيا منتصف عام 2023.

دولة تعسفية ودولة حارسة وبينهما أمة غاضبة

قبل وصول العدالة والتنمية إلى الحكم عبر الانتخابات، كان الجيش يدير البلاد بدعوى الحفاظ على مبادئ الكمالية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك. وكانت هناك دائما دولة تعسفية تحكم لصالح جنرالات الجيش سرا أو جهرا.

وكانت هناك دولة حارسة ينحصر عملها في تبييض أعمال الدولة التعسفية. 

الدولة الحارسة قُوامها الجيش والقضاء والبيروقراطية والشرطة.

الدولة الحارسة كانت استنساخا أو “تطورا طبيعيا” لحزب الواحد الذي اعتمده مصطفى كمال أتاتورك، وخاض به انتخابات 1946.

تعددت الأحزاب والاتجاهات وبقيت هناك دولة حارسة تسهر على أفكار أتاتورك، وتعتبر نفسها ملزمة بالدفاع عنها ضد كل من يعتقدون أنه يمثل تهديدات داخلية أو خارجية لهيمنة التحالف المذكور، كما ورد في شهادة الباحث السياسي التركي كريم أوكتم Kerem Öktem في كتابه تركيا: الأمة الغاضبة

انتهجت الدولة الحارسة سياسة “فرّق تسُد”، وتفننت في خلق الصراعات بين الجماعات المختلفة حتى تتحول إلى حرب شوارع في الأحياء الهامشية والجامعات، وعندها يصبح المبرر جاهزا لتدخل الجيش كما حدث حرفيا في انقلابات 1960، 1971، 1980، 1997 على التوالي.

كل هذه التحركات كانت في خدمة تحالف المصالح غير المكتوب بين العسكر ورجال الأعمال العلمانيين.

كيف كسر “الأتراك السود” تحالف الجيش والعلمانيين

استمد الجنرالات قوتهم من دعم رجال الأعمال الكبار، ودور وسائل الإعلام التي يملكونها في تهيئة الشارع للانقلابات العسكرية. كما كان بعض رجال الأعمال يتبرعون للجيش الذي يطلب قادته الأموال بدعوى حماية النظام العلماني.

وكان المقابل تسهيلات لرجال الأعمال المقربين، وخدمات غير قانونية تكلف الدولة الملايين بل المليارات من الدولارات.

كانت تركيا “بيضاء” تحكم، وتركيا أخرى “سوداء” في حالة تهميش وإقصاء.

والتغير الكبير الذي شهدته تركيا في حكم حزب العدالة والتنمية، هو أننا شهدنا التحوّل في طبيعة الطبقة الاجتماعية الحاكمة.

قد نجد تفسيرا لذلك في النظرية التي صاغتها الخبيرة الاجتماعية السياسية، نيلوفار غولا، في منتصف التسعينيات، والتي قسمت المجتمع إلى الأتراك البيض والأتراك السود والأتراك الرماديين وذلك بعد تعرض الشريحة المحافظة من المواطنين الأتراك للإقصاء والإجراءات الاستئصالية بحقهم.

كان على حزب الحرية والعدالة أن ينتظر عدة سنوات قبل أن ينجح في إخراج الجيش من السياسة ومؤامراتها وانقلاباتها، ويعيد التوازن بين الأتراك البيض والسود.. والرماديين أيضا. 

وكان على الأتراك السود المهمشين أن ينتظروا سنوات أخرى حتى يجدوا من يمنحهم الفرصة لمشاركة بين الوطن في الثروة والنفوذ.

من رواية “غرابة في عقلي” لأديب نوبل التركي أورهان باموك

وهناك الكثير من المؤشرات التي تشرح ما حدث من  التغيرات المجتمعية التي حدثت في أساس هذه التطورات، وفي مقدمتها زيادة نسبة سكان المدن بنحو ثلاثين مليون نسمة خلال العشرين عامًا الأخيرة.

ونزوح هذه الملايين في فترة زمنية قصيرة يستدعي جهودا جبارة لاستيعابهم في المدن، وتوفير فرص عمل مناسبة لهم، ثم الدور المهم الذي تقوم به المؤسسات المجتمعية التي تعمل على دمجهم داخل الدوائر المجتمعية الجديدة.

والتحدي في الجهة المقابلة هو إعادة تأهيل المدن وتطوير البنية الإنتاجية والإمكانيات التعليمية للأبناء.

في بداية السبعينيات كان 70% من أبناء تركيا يعيشون بالقرى ويمارسون الزراعة.

الآن يعيش ما يزيد على 80% من السكان في المدن، ما يعني أن الملايين قد اجتازوا صعوبات التغيير الجغرافي والاجتماعي والمهني بنجاح.

لقراءة المزيد يرجي الضغط على الرابط

زر الذهاب إلى الأعلى